هاني إبراهيم
الطريق الثالث.. مسار لبناء مجتمع مدني فاعل
استمرارا للحوار المجتمعي حول أهمية المجتمع المدني وكيفية إعادة مساره للطريق الصحيح بعد سنوات التخبط التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، واستكمالا لمقالي السابق حول نوعية الخطاب الحقوقي وانقسامه ما بين مؤيد أعمي لمؤسسات الدولة أو ناقد دائم لها، وبعد تحليل رؤية ورسالة كل من المجموعتين نجد أن حلحلة الموقف الراهن تتطلب إبراز جهد مجموعة من العاملين والخبراء في مجالات حقوق الإنسان والتنمية، الذين يشكلون ما يمكن أن أسميه الطريق الثالث، وهو الطريق الذي يتبنى موقفا موضوعيا من سياسات الدولة ومؤسساتها، فينتقد السياسات والممارسات التي لا تتفق مع معايير حقوق الإنسان أو التي لا تلبي احتياجات وتوقعات المواطنين، انطلاقا من الايمان بأهمية النقد البناء، وفي ذات الوقت يؤمن بأن الحوار وليس الصدام هو السبيل الوحيد للارتقاء بالمجتمع وتحسين السياسات والممارسات الحكومية، في إطار فهمه للأدوار المنوط بها كمؤسسات غير معنية بالعمل السياسي وجل اهتمامها ينصب على تحسين نوعية الحياة، من خلال التعاون مع الجميع ودون إقصاء ودون ممارسة أساليب ضغط تتجاوز مفاهيم السيادة الوطنية. وقبل الدخول إلى خصائص ومواصفات الطريق الثالث، ولأن الشيء بالشيء يذكر وجب ربط المفهوم المقترح بمفهوم واسع للمجتمع المدني، وهو مفهوم القطاع الثالث، الذي يشير إلى القطاع غير الحكومي (فالحكومة هي القطاع الأول) والقطاع الخاص (القطاع الثاني) فهو كل مؤسسة، جمعية، منظمة أو هيئة تقدم خدمات للمجتمع المحلي أو العالمي دون ربح يعود على مؤسسيها، وعادة ما يعتمد القطاع الثالث على مجهودات المتطوعين وعلى تبرعات الجهات المانحة أو الأفراد أو الشركات أو مساهمات الحكومة للقيام بمهامه تجاه المجتمع.
ومع تعقد المجتمع يعمل حاليا بهذا القطاع آلاف من الخبراء والعمالة المهنية ذات الخبرات المتنوعة، ومنهم من يتمتع بتأثير كبير في رسم السياسات الدولية في قضايا إنمائية أو حقوقية محددة، مثل قضايا التغيرات المناخية أو قضايا الاتجار في البشر وغيرها. ومن التعريف السابق وربطه بمفهومي الخاص عن الطريق الثالث أجد نفسي أطرح عدة تساؤلات عن الغاية من عمل منظمات المجتمع المدني على اختلاف مشاربها، سواء أكانت منظمات حقوقية أو تنموية أو خيرية أو مؤسسات نقابية أو مجموعات شبابية أو تحالفات نسائية. فهل المجتمع المدني غاية في حد ذاته أم هو وسيلة لتحقيق هدف أسمى أو رسالة عليا؟! فعلي مدى سنوات عملي في قطاعات متعددة من المجتمع المدني وجدت أن هناك من يعتبر أن وجود منظمات المجتمع المدني هو غاية في حد ذاته، كجزء من استراتيجية تعزيز المشاركة في الحياة العامة، وتعويضا عن ضعف المؤسسسات الحزبية، فكان الدفاع عنها هو دفاع عن وجودها بغض النظر عن أهميتها وفاعليتها ونتائجها، وفريقا آخر يرى أن المجتمع المدني هو وسيلة وليس غاية في حد ذاته، فهو وسيلة للمساهمة في تحقيق الغايات الكبرى للإنسان وهي غايات السعادة والاستقرار والنمو وضمان حياة كريمة سواء على المستوى الشخصي والأسري أو على المستوي المهني والمشاركة في الحياة العامة.
وأنا من الفريق الثاني الذي يؤمن بأن المجتمع المدني وسيلة وليس غاية، ويجب أن يكون الدفاع عن الأهداف والغايات هو الأسمى، وأن يكون تفكير نشطاء وقادة المجتمع المدني ينصب في كيفية تحقيق هذه الغايات السامية.
يقودنا هذا المدخل إلى نشاط هام من أنشطة تحقيق الغايات وهو الحوار البناء مع مؤسسات الدولة ومع صانعي ومتخذي القرار، فالحوار هو القناة الشرعية التي تصل بين احتياجات المجتمع والمؤسسات القائمة على الاستجابة لهذه الاحتياجات، سواء أكانت احتياجات مادية مثل الخدمات الصحية والتعليمية أو احتياجات حقوقية كالحق في التعبير والحق في التنظيم وغيرها.
في كتابه المهم عن المجتمع المدني، يقول مايكل إدواردز الأستاذ بجامعة نيويورك والباحث بمركز ديموس للأبحاث والدراسات، إن الحركات الاجتماعية الناجحة تتسم بامتلاكها ثلاثة أشياء مشتركة: أولا: أن يكون لديها فكرة فعالة وأجندة سياسات محددة وواضحة، ثانيا: استراتيجيات اتصال قوية لإيصال أفكارها إلى السياسيين ومؤسسات الحكم ووسائل الإعلام، وثالثا: وجود مجموعة دعم قوية أو قاعدة شعبية توفر لها شرعية تمثيلها لمطالب المجتمع. فإذا توافرت العوامل الثلاثة معا يكون النجاح حليفها، حتى لو كان هناك معارضة لها. ومن تحليلي لهذه العوامل الثلاثة ومقارنتها بالوضع هنا في مصر أجد أن عددا كبيرا من المنظمات الحقوقية بشكل خاص ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام تركز على وجود الفكرة والنشاط، وتفتقر لوجود قنوات الاتصال مع مؤسسات الحكم أو تعاديها، والأهم أنها في كثير من الحالات تفتقر إلى وجود قاعدة شعبية داعمة لها أو أنها تمثل نخبة محددة لا تتصف بأنها ممثلة للقطاعات العريضة من المجتمع.
وعليه يمكن تحديد بعض من سمات العاملين في منظمات الطريق الثالث، الذين يعملون وفق رؤية واضحة تتعلق بالارتقاء بحياة الناس وتدافع عن الحقوق والحريات، في ظل تعقد المشهد السياسي وتضع التهديدات الداخلية والخارجية في حساباتها في أثناء تحقيق رسالتها:
1- الابتعاد عن الخلط المتعمد ما بين العمل السياسي والعمل الأهلي: يوجد فارق ما بين التوعية السياسية والتوعية بالمشاركة المدنية الفعالة، وما بين مساندة تيار سياسي بعينه أو تزكية مرشح في انتخابات عامة أو الدعوة لمناصرة أيديولوجية سياسية محددة. أصحاب الطريق الثالث يعملون مع الساسة من أجل تبنيهم سياسات تلبي احتياجات المواطنين، لكنهم لا يصنعون السياسيين ولا يؤيدون أيا منهم، بل تكون العلاقة بينهم هي علاقة مجتمعية خادمة للمجتمع دون أن تخدم تيارا سياسيا بعينه.
2- الإيمان بالتنظيم واحترام سيادة القانون: يؤمن أصحاب الطريق الثالث بأن تنظيم المجتمع واحترام القانون المنظم لعمل مؤسسات المجتمع المدني على اختلاف جهات تسجيلها هو قاعدة أساسية وركيزة من ركائز سلامة المجتمع ونموه وتطويره، وأن الدعوة للفوضى وعدم احترام القانون هو تهديد صريح لسلامة المجتمع. عند الاختلاف على قانون مثل قانون العمل الأهلي الحالي في مصر يكون الحوار والنقد البناء هو وسيلة تصحيح المسار، ويتم ذلك من خلال القنوات الشرعية التي رسمها الدستور لذلك. وكما تقول كسندرا كلير في روايتها ذائعة الصيت مدينة من زجاج: "القانون صعب وثقيل على قلوبنا وأفهامنا لكنه يظل قانونا".
3- الحوار مع الدولة في مقابل الصدام معها: كما ذكرت سابقا وكما يقول مايكل إدواردز في نهاية الأمر سيكون لزاما علينا الجلوس على طاولة الحوار مع مؤسسات الدولة من أجل أن نبرز مطالبنا وما نريده من تغيير وما نريد سد حاجاته. مطالبة الدولة بالتغيير ورفض التعاطي معها من خلال الحوار يمثل صداما غير مفهوم النتائج، ويمثل رغبة في الركون دائما في خانة المعارضة الدائمة. أصحاب الطريق الثالث ينتقدون الدولة وممارساتها لكنهم يؤمنون بالحوار معها لتصحيح الأوضاع، مع البقاء في خانة الحياد الموضوعي، وهي خانة النقد للسلبيات والإشادة في حالة اتخاذ خطوات إيجابية لتحقيق مطالب وتطلعات المجتمع.
4- شمولية التدخلات والرسالة في مقابل الانتقاء والإقصاء: عنصر هام من عناصر قوة أصحاب الطريق الثالث هو نظرتهم للحقوق نظرة شاملة دون انتقاء إحداها أو تفضيل مجموعة سكانية عن الأخرى. فالحق في التنمية يتساوى في أهميته في الحق في التجمع السلمي، واحترامهم لحرية العمل يتساوى مع احترامهم لحرية الرأي والتعبير.
5- الرؤية مقابل النشاط: يحكم أصحاب الطريق الثالث وجود رؤية تتماهى مع الغايات السامية للمجتمع من سعادة ورخاء وتقدم، ويعملون على تحقيق الرؤية من خلال أساليب متنوعة، سواء أكانت حملات مدافعة عن الحقوق أو طرحا لسياسات بديلة أو بناء قدرات الموارد البشرية أو إصلاح المؤسسات العامة، في حين أن الأطراف الأخرى تركز على النشاط فيكون نشاط التدريب أو نشاط البحوث هو الغاية في حد ذاته دون أن يكون موجها أو خادما لهدف أسمى، وبالتالي يكون نقد السياسات مطلوبا في ذاته، ويكون التدريب ليس هدفه بناء معرفة أو مهارة، بل تنظيمه والحضور فيه هو هدف في حد ذاته.