صلاح عطية
الأمانة الصحفية .. وصحافة "الفبركة" والإثارة
أكثر الأمور خيانة للأمانة الصحفية وإنهاكًا لمسئولية الصحفي والصحفية.. فبركة الأخبار ومحاولة خداع القارئ وإيهامه بصحتها.. وتأتي معها أيضًا الإثارة الصحفية.. بكل ما يمكن أن تؤدي إليه من مشكلات.
مدرسة واحدة تجمع بين الفبركة الصحفية والإثارة الصحفية.. في أهدافها ووسائلها.. وهي علي أي حال ليست مدرسة مصرية فحسب. بل هي مدرسة لها تلاميذها وأساتذتها في كل أنحاء العالم.
والفبركة في الصحف تعني اصطناع أحداث أو أخبار لم تقع ونسبتها إلي أشخاص بعينهم.. أو حتي عدم نسبتها إلي أحد.. وإضفاء صياغة توهم بصحتها.
ومعظم الأخبار التي قد تحكم للوهلة الأولي بأنها مفبركة تبدأ عادة بتصريح لمصدر مسئول.. دون تسميته.. فتدرك علي الفور أن المعلومات الواردة بعد هذا المصدر المجهول.. تنقصها الدقة.. أو "مفبركة" أو من عنديات كاتبها.. أو استنتاجاته في أحسن الأحوال.
وتتخفي أهداف عديدة وراء الأخبار المفبركة ومعظمها يهدف إلي الإساءة إلي شخصيات بعينها.. أو إضافة معلومة ما خاطئة إلي حدث ما.. أو مواجهة نقص ما في تغطية حدث ما.. فيلجأ كاتب الخبر إلي إضافة من عنده يري أنها قد تساعد في نشر الخبر.
من الأخبار المفبركة الكثير ما نراه الآن علي وسائل التواصل الاجتماعي.. وللأسف ينقله عنها بعض الصحفيين الذين يتفرغون لاستقاء معلوماتهم من هذه المواقع.. يأخذون عنها.. ويضيفون إليها.. ولكن الفبركة الصحفية قديمة قبل هذه المواقع.. ومستمرة معها وبعدها.. ولعلنا نتابع يوميا الكثير من هذه الأخبار المفبركة.. كخبر القبض علي ممثل وزوجته الممثلة أيضا بتهمة المخدرات.. ثم يتضح أن الخبر غير صحيح فبركه من أراد أن يسئ إليهما ودفع به إلي صحفي لم يتيقن من صحته.. وهناك من برع في فبركة الأخبار اليومية للإساءة إلي بعض الشخصيات.. أو للانتقام منها.. أو لابتزازها.. وأعرف من استمر ثلاثة أشهر يدس خبرا مفبركا ضد أحد المحافظين.. حتي ضاق الرجل.. وخضع في النهاية للابتزاز.. وأصدر الترخيص الذي كان يسعي إليه ذلك الصحفي "لأحد أصحاب المصالح لديه" نفس هذا الصحفي ظل يدس خبراً كل أسبوع ضد أحد مديري الفنادق.. بسبب ما اعتبره تقصيراً في مجاملته.. حتي اضطره أن يسعي إليه في النهاية معتذرا.. وتائبا..!!
أعرف صحفيا آخر كان ينسب كل خبر في الوزارة التي يغطي أخبارها إلي الوزير ظناً من أنه يضمن بذلك نشره.. مهما كان الخبر تافها.. وضاق الوزير ذرعا بذلك الأسلوب. وفي أحد المؤتمرات الصحفية التي عقدها ذلك الوزير.. توجه مباشرة إلي ذلك الصحفي ومعه مجموعة من الأطباء التي نسبها إليه وسأله أمام زملائه.. هل أنا قلت لك ذلك يا فلان.. هل اتصلت بي لأصرح لك بما نشرت.. وكان موقفا محرجا للزميل.. ولمن حضروا معه من زملائه.. نوقف بعدها عن هذه الفبركة.
أعرف صحفيا راحلا من أجيال سابقة.. كان متخصصا في تغطية أخبار الحوادث.. وقد منح نفسه رتبة اللواء.. وكان يتواصل مع أقسام الشرطة بهذه الصفة.. ويتحدث مع عامل التليفون.. بهذه الأقسام وبهذه الصفة.. طالباً ايصال مكالمته.. إلي مأمور القسم.. وكان هذا الصحفي مشهورا بفبركة الحوادث..وكان يستطيع أن يملأ صفحة كاملة بقصة وهمية لم تحدث.. ولكنه كان يمنحها الخيال.. ويذكر في ثناياها أسماء مصادره من ضباط الشرطة الذين قاموا بالتحريات والضبط والتحقيقات والاحالة إلي النيابة..وكان يسبق بذلك باقي الصحف.. وينفرد بنشر الحادث "الوهمي" من أمثلة الفبركة الشهيرة ما وقع فيه مراسل لإحدي الصحف الصباحية حيث بعث إليها بقصة طويلة عريضة عن جيش قمبيز الذي دفن في رمل الصحراء الغربية حيث يقول لها إن عاصفة هوجاء اجتاحت هذه الصحراء فكشفت عن جيش قمبيز المطمور في الرمال وطبعا نال الخبر اهتماما عالميا فالكل يريد أن يري هذا الكشف التاريخي ويكتب عنه. وتلقت الجريدة العديد من الاستفسارات من صحفيين عالميين شرعوا في التجهيز للسفر إلي مصر لتغطية الحدث وعندما وجه ذلك المراسل أن الأمر أصبح جداً وخطيرا.. توقف ذهنه عن فبركة ثانية.. فأبرق إلي صحيفته قائلا إن عاصفة هوجاء في الصحراء شبت أيضا فطمرت ما كان قد ظهر من جيش قمبيز!!
من أمثلة الفبركة الصارخة ما عهدت إليه صحيفة خاصة طوال أسبوع كامل.. هو بالصدفة أسبوع العيد.. فبركت فيه أخباراً طالت الجميع بالأذي.. واضطرت مع كل نشر أن تعتذر في اليوم التالي. تكذب نفسها.. لتزيد بذلك أزمة المصداقية التي نعيشها.. ولا أريد أن اتعرض لبعض ما قالته عن جريدتنا حتي لا أسهم فيما أرادته من إساءة إلي هذه الجريدة التي نشرف بالانتماء إليها والغريب في أمرها أنها في اعتذارها إلي الهيئة الوطنية للصحافة تقول إنها استقت الخبر من مصادرها.. وهذا اعتراف يؤكد للجميع أن مصادرها هم سباعة البطاطة".
وامتدت الفبركة لتطال قامة تاريخية لتذعم علي لسان كاتب راحل قوله إنه علم بأن أم كلثوم تزوجت سراً وأنجبت ثلاثة أبناء.. بنتاً.. وولدين؟!
والذي يقول إنه علم.. لم يقل إنه رأي.. بل قال سمع.. والصحفي الذي ينشر يسلم بأن أم كلثوم تزوجت.. لأن شخصاً آخر سمع.. وكلهم لم يروا شيئاً.. ولكنها الفبركة والإثارة الصحفية التي يعيشون عليها.. وينسجون منها قصصاً كل يوم علها تسعف توزيعهم المنهار.. ولو أن هناك رئيس تحرير يفهم جيداً ما يقرأ.. ويستوعب أيضاً جيداً ما قرأ.. لما أقدم علي نشر هذا الهراء.
ومع الفبركة تأتي الإثارة.. وبعضها يخرج الصحفي من مسئوليته التي يجب أن يتحلي بها. فالمسألة ليست نشراً وحسب من أجل النشر.. وإنما هناك مسئولية من ينشر فلو أن مصدراً كان يتحدث وأخطأ في شيئ ما.. فالمسئولية الأخلاقية تقتضي هنا أن أنبهه إلي هذا الخطأ.. واستئذنه في النشر أو في عدم النشر وإن كان يسيء إلي أحد.. أو إليه شخصياً.. هكذا تعلمنا من أساتذتنا.. وكم أنقذنا نحن مصادرنا من هفوات وقعوا فيها أو من تصريحات كانت توقعهم في مأزق وذلك بمراجعتنا لهم فيما قالوه.. ذلك كنا نعتبره حق المصدر الذي وثق بنا.. ونعتبره حق القارئ.. وحق من تتجه إليه الإساءة ألا نسهم فيها فنشارك المصدر في الاساءة إلي من لا يجب الاساءة إليهم.. ولم يكن همنا اصطياد المصدر فيما يؤدي إلي فرقعة أو إثارة والإصرار بعد ذلك علي أن المصدر قال هذا.. ولدينا تسجيل بما قاله.
الصحافة أمانة ومسئولية وأخلاق وقيم وهي ليست اصطياداً في الماء العكر أو ابتزازاً أو ارتزاقاً.. فمتي تنبذ الصحافة كل ما يقع في محظورات تسيء إلي المهنة وأبنائها؟!