الأهرام
جمال عبد الجواد
المعونة الأمريكية وحقوق الإنسان
المعونات الأمريكية تمثل إضافة للموارد المصرية المحدودة، ومن الصعب علي أي عاقل التعامل بلا مبالاة مع قرار قطع بعض المعونة الأمريكية وتجميد بعضها الآخر. لكن المعونة الأمريكية أقل في أهميتها من أن تجعل الحكومة في مصر تغير سياسات جوهرية وتبدل مواقف حاسمة، هذا هو ما أثبتته خبرة السنوات السابقة. الولايات المتحدة تتذرع بملف حقوق الإنسان لتقليص المعونات الموجهة لمصر. المؤكد هو أن الحكومة المصرية عليها بذل كل الجهد من أجل تحسين حالة حقوق الإنسان في البلاد. ولكن المؤكد أيضا هو أن الحكومة المصرية لا يجب عليها تحسين حالة حقوق الإنسان من أجل إرضاء أمريكا أو غيرها من الدول، أو لأن تحسين حالة حقوق الإنسان يسهم في تجميل صورة مصر في العالم، وإنما علي الحكومة المصرية أن تفعل ذلك لأن المواطن المصري يستحق أن يتمتع بحقوقه كاملة، بغض النظر عن آراء الحكومات الأجنبية، وبغض النظر عما يسمي بالرأي العام العالمي، والذي هو في حقيقة الأمر لا يزيد عن كونه الرأي السائد في بلاد الغرب، خاصة في وسائل إعلامه.

ثلاثة تيارات يمكن أن نلحظها بين الأمريكيين والغربيين فيما يخص مسألة حقوق الإنسان خارج العالم الغربي. هناك أولا تيار ليبرالي-يساري، أو ليبريساري، يتعامل مع حقوق الإنسان كما لو كانت عقيدة دينية. حقوق الإنسان في عرف هذا الفريق هي مجموعة من القيم والمبادئ والنصوص القانونية التي تتمتع بصلاحية واسعة النطاق تتجاوز حدود الدول، لا تقف أمامها عوائق سياسية أو ثقافية أو حضارية. يتعامل هذا الفريق مع حقوق الإنسان كما لو كانت دينا جديدا صالحا لكل زمان ومكان، بغض النظر عن مستويات النمو الاقتصادي، ومحتوي القيم الثقافية السائدة، ونوعية المؤسسات والتقاليد السياسية، وطبيعة خبرات التكوين السياسي. حقوق الإنسان، وفقا لهذا الفريق، لا تمثل مرحلة متقدمة في التطور السياسي والثقافي تسبقها وتمهد لها مراحل أخري، لكنها الصواب المطلق، والحلال البين، الذي لولا الطغاة من الحكام لظهر نوره للبشرية جمعاء.

هناك ، ثانيا، التيار الذرائعي، الذي لا يهتم بحقوق الإنسان في كثير أو قليل، وإن كان لا يجد غضاضة في توظيف هذه القضية طالما كان ذلك يحقق مصالحه. توظيف إدارة الرئيس ريجان في ثمانينيات القرن العشرين لمبادئ حقوق الإنسان من أجل الضغط علي الاتحاد السوفيتي هو النموذج الأكثر نجاحا لتوظيف حقوق الإنسان لتحقيق مصالح استراتيجية. بعض الأمريكيين والغربيين يأخذون حقوق الإنسان بطريقة أكثر جدية من هذا الفريق الثاني، وهؤلاء يصنعون التيار الثالث الذي نجده بين الغربيين بشأن هذه القضية . الترويج لحقوق الإنسان بالنسبة لهذا الفريق هو التجسيد المعاصر لعقيدة عبء الرجل الأبيض. الحضارة الغربية أكثر رقيا وتفوقا من الحضارات الأخري، هذا هو ما يؤمن به أنصار هذا الفريق، وعلي أبناء الحضارة الغربية تحمل مسئولية نشر المدنية بين البرابرة من أبناء الحضارات والثقافات الأخري، هذه هي المعتقدات الأساسية لهذا التيار.

الصراع بين بعض هذه التيارات حقيقي، وله أثر مزلزل علي المجتمع الأمريكي نفسه. الصدام الدامي الذي حدث بين الشبان الليبريساريين من ناحية، والعنصريين البيض في شارلوت فيل-فيرجينيا الشهر الماضي هو مظهر من مظاهر هذا الصراع. فبعد قرن ونصف القرن علي انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية لا يحتمل الليبريساريون وجود تمثال لأحد قواد جيش الكونفيدرالية، فيما يري العنصريون البيض في ذلك تحقيرا لجنسهم الأبيض المتفوق.

الاستخدام الأمريكي الراهن لورقة المعونات ضد مصر هو نتيجة للتعاون بين الذرائعيين والقائلين بعبء الرجل الأبيض. الترويج لقيم حقوق الإنسان ليس من ضمن أولويات الرئيس ترامب وجماعته. الرئيس ترامب وجماعته يؤمنون بتفوق الحضارة الغربية، لكنهم لا يرون أملا أو فائدة في نشر قيم حضارة الغرب خارج حدوده، خاصة في بلاد المسلمين. لكن بعض الجمهوريين، من أمثال عضوي مجلس الشيوخ جون ماكين وليندسي جراهام، يؤمنون بأهمية قيام حكومتهم بنشر القيم الأمريكية خارج الحدود. وفيما يشعر هؤلاء بالزهو بعد تسببهم في معاقبة مصر، فإن الرئيس ترامب ربما يشعر بالارتياح بعد أن تم توفير ما يقرب من ثلاثمائة مليون دولار من فاتورة السياسة الخارجية الأمريكية، تماما مثلما شعر بالارتياح عندما قامت روسيا بطرد 750 من الدبلوماسيين الأمريكيين.

تاريخيا، تعاون الذرائعيون الغربيون مع أنصار «عبء الرجل الأبيض» لتحقيق أهداف مشتركة. الاستعمار الأوروبي لمناطق شاسعة خارج أوروبا، بما فيها بلادنا، هو التجسيد العملي لهذا التعاون. سعي نابليون بونابرت لقطع الطريق بين انجلترا والهند، فقام باحتلال مصر عام 1798، فيما كان العلماء والفنانون المرافقون لحملته العسكرية يسعون لنشر حضارة الغرب ومبادئ ثورة الفرنسيين في بلاد الشرق. الإرساليات الدينية، التي رافقت توسع نفوذ حكومات الغرب خارج أوروبا، هي تجسيد آخر للتعاون والتكامل بين الذرائعيين، من ناحية، وحاملي عبء الرجل الأبيض، من ناحية أخري.

لقد أمدت عقيدة «عبء الرجل الأبيض» الاستعمار الغربي بأساس أخلاقي، فقدمت تبريرا للطمع والجشع الذي هو أساس كل استعمار، ومكنت الغربيين من التسامح مع الفظائع التي ارتكبها الاستعمار في إفريقيا والهند والعالم الجديد، باعتبارها ثمنا بسيطا يجب دفعه لإدخال البرابرة غير الغربيين في المدنية. في وقتنا الراهن توظف مبادئ حقوق الإنسان لتقديم تبرير أخلاقي للتدخل الغربي في شئون الآخرين. ألم تستخدم انتهاكات نظام صدام حسين لحقوق الإنسان لتبرير الغزو الأمريكي للعراق، مع أن التكلفة الإنسانية للاحتلال الأمريكي زادت بعدة مرات عن التكلفة الإنسانية لوحشية صدام المؤكدة؟

لقد أدخل الاستعمار الأوروبي مؤسسات التعليم والعلاج والإدارة الحديثة لأول مرة في كثير من مناطق العالم غير الأوروبي، فكان هذا إسهاما قيما لا يمكن رفضه. إلا أن هذا الأثر الإيجابي المؤكد للاستعمار يظل أقل بكثير من أن يقدم تبريرا للاستعمار الغربي، بكل التدمير والتمزيق الذي سببه الاستعمار في البني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلاد المستعمرات. وبالمثل، فإن مبادئ حقوق الإنسان في مجملها فائقة الروعة، تجني الشعوب ثمارها عندما تنمو تلقائيا وتدريجيا، بغير قسر وإكراه خارجي، تختلط فيه بعض الدوافع النبيلة، بالكثير من الدوافع الشريرة والعقد النفسية والثقافية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف