محمد ابو الفضل
الحل السياسى البعيد فى سوريا
إذا كان الحسم العسكرى أصبح مستحيلا فى سوريا، فالحل السياسى مازال بعيدا، والمؤشرات التى تؤكد أن التسوية قطعت شوطا إيجابيا غير كافية للتدليل على أن الأزمة المحتدمة أوشكت على الانتهاء، فهناك تعقيدات كبيرة على الأرض تفرض قدرا وفيرا من التشاؤم.
ونعم نجحت مصر بالتعاون مع روسيا فى الوساطة بين النظام السورى وبعض قوى المعارضة، لكن هذه الخطوة أمامها أشواط كثيرة حتى تمتد إلى أقاليم أخري، تتجاوز حدود الغوطة الشرقية وشمالى حمص.
ونعم هناك جولات للحوار عقدت فى كل من الرياض وجنيف وأستانا برعاية إقليمية ودولية، لكنها لم تسفر عن شيء ملموس يعزز القناعات بأن التسوية السياسية للأزمة السورية قاب قوسين أو أدني.
ما يجرى الآن من محاولات جادة تقوم بها بعض الأطراف، أملا فى إنهاء المأساة التى لحقت بسوريا وشعبها، تنقصها الإرادة الحقيقية من قبل قوى فاعلة فى الأزمة، بعضها يتلكأ فى تهيئة الظروف المناسبة للحل السياسى لتعظيم المكاسب، ويحتاج إلى وقت لترتيب أوراقه كى يتأقلم مع المستجدات والتداعيات.
والبعض الآخر يفتقر إلى رؤية واضحة للمرحلة المقبلة، ويعتمد على سياسة الغموض الهدام، وهناك فريق ثالث يتعمد التخريب ويعمل على تطويل أمد الحرب لتجنب مواجهة النتائج التى سوف تترتب على الحل السياسي، وما يمكن أن يفرزه من إجراءات قد تضر بمصالح جهات عديدة.
الفرق الثلاثة لديها من المقومات ما يساعدها على تعطيل التسوية، التى تحتاج إلى موافقة صريحة من جميع القوى الفاعلة، وخطوات محددة لوقف الحرب والحيلولة دون استئنافها مستقبلا، وكل التصريحات والبيانات التى أُعلنت والخطوات التى اتخذت لم تحمل حتى الآن جدية تؤكد أن الفكرة أضحت مختمرة فعلا لدى أنصار هذا الفريق.
الولايات المتحدة مثلا مترددة فى دعم تسوية الأمر الواقع، وتبدو كمن يقدم رجلا ويؤخر الأخري، خشية أن تجد نفسها خرجت خاوية الوفاض، وربما منكسرة سياسياً وعسكريا، فى أزمة بدت فى غالبية مراحلها غير واثقة من تصوراتها، مما يصب فى مصلحة روسيا، وتدور غالبية الدول الأوروبية فى هذا الفلك، وتتبنى سياسات متناقضة أحيانا، تارة للتشويش، وأخرى لتعطيل قطار التسوية الذى يؤدى وقوفه فى محطته النهائية فى الوقت الراهن إلى خسائر يصعب تعويضها مستقبلا، حيث تمتلك موسكو اليد الطولى فى الوقت الراهن، وتستطيع ترتيب الكثير من الأمور بما يضاعف من صعوبة تغييرها لاحقا.
أما الفريق الثاني، فتقف على رأسه تركيا المسكونة بهواجس كردية، وأمامها سيناريو تقرير مصير الأكراد فى العراق من غير المستبعد أن يقترب بسهولة من سوريا، وبالتالى من الممكن أن يطرق أبوابها بقوة، بحكم أنها الدولة التى تقطنها أكبر مجموعة كردية فى المنطقة، لذلك غير مقتنعة بتسوية الأزمة السورية فى هذه الأجواء المعقدة، لكنها لا تستطيع إعلان معارضتها لها علانية.
الفريق الثالث، هو الأخطر، وتمثله إيران وحزب الله اللبنانى وقطر، وكل منهم يعتقد أن التسوية الآن يمكن أن تفتح عليه أبواب جهنم، فهناك احتقان إقليمى ودولى من كثافة الدور الذى تلعبه طهران فى الأراضى السورية، وهى تدرك أن الحل السياسى أحد ملامحه وربما شروطه إنهاء أو على الأقل تقليص دورها، مما يعنى فقدان أهم بؤرة لنفوذها فى المنطقة، والتى يمكن أن تكون مدخلا لفقدانها المزيد من المرتكزات، مما يجعلها غير راغبة فيه، بل ساعية إلى تفشيله، ومحاولة تعطيل اتفاقيات الهدنة التى عقدت فى بعض المناطق.
الأخطر أنها تعمل على تغذية عوامل الصراع، من خلال فتح مجالات للحركة أمام تنظيم داعش، والإيحاء بأنه لا يزال يمثل خطرا عارما فى سوريا، وهو الطريق الذى يسلكه حزب الله بشتى السبل، حيث يخشى من تحجيم نفوذه، والاستدارة إليه بعد ذلك ثم فتح ملف تدخله العسكرى فى الأراضى السورية، قبل أن يتحول إلى قوة إقليمية يصعب السيطرة عليها، على استعداد، إذا تهيأت الظروف، أن تبتلع لبنان كله بما يتجاوز الحدود المعروفة.
لعل الصفقة التى قام بها حزب الله، بمساعدة الجيش اللبنانى ومباركة إيران، لإخراج عناصر داعش من الحدود اللبنانية مع سوريا الشهر الماضى وتوطينها فى دير الزور، واحدة من العلامات المهمة التى تؤكد عدم رغبة الحزب فى إنهاء أسطورة داعش، وحتى لو التحف برداء تحرير قتلاه وإخلاء الأراضى اللبنانية من التنظيم الإرهابي، فهو يعمل على ضخ دماء جديدة فى عروق داعش، باعتبار أن التنظيم ضامن لتأجيل محاسبته فى سوريا، تمهيدا لزيادة تحسين أوضاعه وجنى مكاسب أو على الأقل عدم تكبد خسائر فادحة.
أما قطر، تجد فى إنهاء الأزمة السورية وفقا للمعطيات الراهنة وبالا عليها، وخروج نظام بشار الأسد حيا وعفيا يعنى فتح الباب لتصفية جانب معتبر من حساباته مع الدوحة، التى تعد أهم راع للعناصر المتشددة فى المنطقة، وقامت بدور سلبى فى تهديم أركان الدولة السورية، بمساعدة قوى أخرى بالطبع، ومن مصلحتها مد حبال الأزمة ودخولها آفاقا مجهولة، وهى هنا تتقاطع مع كل من إيران وحزب الله صراحة، وتركيا ضمنيا، وفى ظل عدم القضاء على الإرهابيين ووجود فلول لهم تتحرك بسهولة فى بعض المناطق يبدو أفق التسوية عصيا.
اللعبة التى تشارك فيها أطراف محلية وإقليمية ودولية، استهوت القائمين عليها، ونجحوا فى القبض على عدد من مفاصلها لتعطيل الحل السياسى وتمديد أجله لأكبر وقت ممكن، الأمر الذى يجعل البعض يتوقع عدم ظهور التسوية الفعلية قبل مضى خمس سنوات على الأقل، تظل سوريا تترنح خلالها يمينا ويسارا، أو حدوث تطور نوعى حاد يرجح كفة رؤية روسيا دون تقديرات معقدة.
الوصول إلى هذه النقطة مسألة غاية فى الصعوبة، وتحتاج إلى استعدادات وترتيبات وإجراءات كبيرة تحسم بعض الصفقات التى تدور فى الخفاء، وتنهى لعبة المساومات التقليدية، وإلى حين الوقوف على أبواب هذا المربع سوف يبقى الحل السياسى مؤجلا وبعيدا عن سوريا.