الجمهورية
على هاشم
ليكن شعارنا.. "الوطن أولاً.. والأخلاق العليا دائما"
في معرض ما يجري في عالمنا العربي وخصوصًا في مصر لابد أن يثور سؤال : هل أخلاقنا بخير؟ وإذا كانت بخير فلماذا تدهورت أحوالنا وتداعت علينا الأمم لتنهش في استقرارنا وتحاول هدم أركاننا .. لماذا نحن أكثر شعوب الأرض ابتلاء بالإرهاب والتطرف والإهمال والفساد واللامبالاة والإغراق في الخرافة والأمية والدجل والشعوذة والاستسلام للشائعات رغم ما يحض عليه ديننا الحنيف من ضرورة تحري الصدق وطلب العلم وإقرار العدل والتثبت من صحة الأنباء قبل ترويجها أو تصديقها ودرء الشبهات باليقين والبرهان .. لماذا انتشرت بيننا رذائل كالكذب والرياء والغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل خلافًا لما يأمرنا به شرعنا القويم بضرورة إصلاح النفس والإقرار بالذنب والإقلاع عن المعاصي والتطهر من الرذائل حتي نبلغ درجة الإيمان ويطابق ظاهرنا باطننا وقولنا فعلنا وألا نقول ما لا نفعل .
وإذا كانت الأخلاق أعظم أركان الفلسفة باعتبارها منصة إطلاق لقيم الخير والحق والجمال فهل تحققت تلك القيم في مجتمعاتنا التي خرجت من كبوة الاستعمار والاحتلال والاستبداد لتقع في شرك الدواعش الجدد وجماعات التكفير وانطلاق وموجات العنف وتخريب العمران وسفك الدماء وتشويه صورة الإسلام السمح.
لا شك أن مكارم الأخلاق هي مدارات الأديان كلها وما أبلغ قول رسول الإسلام: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وقوله : أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطأون أكنافًا فالدين المعاملة وما انتشر الإسلام إلا بحسن الخلق وحسن المعاملة ولولا الأخلاق الحميدة لأصبحت المجتمعات البشرية غابات حيوانية ينهش القوي فيها الضعيف إشباعًا للغرائز والحاجات وما أحسب تخلفنا عن ركب التطور وسياق التاريخ إلا لتخلينا عن مكارم الأخلاق وإهمال دورنا الحضاري المتميز الذي نقل المجتمعات من البداوة والغشاوة إلي مصاف الحضارات الكبري والأمم العظمي التي حفظت الإنسانية من غياهب الجهل وظلام التخلف في العصور الوسطي ولقد سادت أمتنا العالم بما أدته من أدوار تاريخية رعت الأخلاق وأثمرت بالعلم تطورًا جديدًا حافظ علي بقاء الإنسان والأخلاق ورسم له معالم التمدين .
وحين نتأمل أحوالنا اليوم وأحوال الأمم الحية الناهضة البازغة لا يكفي أن نقول إن مصر أمة السبعة آلاف عام حضارة فالعبرة بالنتائج وليس بالمقدمات فحسب . فماذا فعلنا في هذه الإرث الحضاري المشرف المشرق هل حافظنا علي تفوقه.. هل أضفنا إليه هل حاكينا أجدادنا الذين امتدت إمبراطوريتهم القديمة من أدغال أفريقيا جنوبًا وحتي جبال طوروس شمالاً..؟!
لا يخامرني شك أن ثورة يناير ما ضلت طريقها إلي التغيير ولا تعرضت للسرقة من جانب الإخوان إلا لأنها ركزت بالأساس علي مطالب اجتماعية وسياسية. دون أن تتخذ لها ظهيرًا أخلاقيًا يحفظها من انحرافات سلوكية طفحت انتهازية وانحطاطًا وتدنيًا رهيبًا في القيم الاجتماعية التي كانت أهم ما يميز مجتمعات الشرق المتدين بفطرته الحاضنة لرسالات السماء وشرائع الأديان» هذا الشرق فجر الضمير ومعين الأخلاق ومنبع الرقي الإنساني وتلك هي ركائز الحضارة وأهم أعمدتها .
لقد أفرزت ثورة يناير سلوكيات لا علاقة لها بالثورات الهادفة لرفع الظلم وإقرار العدل والحرية والمساواة وإعلاء الكرامة الإنسانية .. فلكل ثورة ناجحة كفتان إحداهما لهدم الفساد والأخري لبناء العدل والاستقرار .. وما أحسب أن ما وصلنا إليه في عالمنا العربي الذي اجتاحته ريح الثورات بعد يناير إلا لأن ثوراته قامت علي كفة واحدة هي الهدم فقط» هدم الأنظمة وما انطوت عليه من مثالب وفساد دون أن يكون حاضر في ذهن المتظاهرين ونخبتهم سلفًا إجابة السؤال الحتمي: ماذا بعد الهدم .. فلم يملك أحد للأسف خارطة طريق للبناء ودون إيجاد البديل الذي يمكنه تعويض غياب النظم والأركان المطلوبة لقيام الدولة بوظيفتها الأساسية نحو المواطن .
لقد أفرزت ثورة يناير في مصر حالة احتجاج انتهازية تطلب المزايا دون أن تقدم ما يوازيها من جهد . تطلب الحقوق وتهمل الواجبات . تهدم كل شيء بدعوي التغيير حتي لو قاد مثل هذا التغيير لاختلالات في منظومة القيم ونسق المثل العليا والأخلاق المثلي .. وإلا فبم نفسر تزايد وتيرة حوادث السرقة بالإكراه والخطف والاغتصاب وزنا المحارم والقتل والتعدي علي الممتلكات العامة . وانتشار سيل من البذاءات والسفاهات والتشهير والتحرش عبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي والتشفي حتي في الموت والمرض وربما في هزيمة المنتخب القومي في مباراة دولية مهمة أو خسارته لبطولة قارية طال شوق الجماهير إلي إحرازها في ظاهرة غير مسبوقة لم تعرفها مصر علي مدي تاريخها .. حتي الشعارات التي ابتدعها من يطلقون علي أنفسهم اسم ¢ ثوار ¢ أشاعت حالة فوضي وهدم تطال الدولة ورموزها. ناهيك عن عبارات البذاءة التي خُطت علي الجدران وصفحات الفيس بوك . وبدلاً من أن يكون هؤلاء الثوار طليعة أخلاقية تهدي العامة إلي الحق والرشد كرست الانقسام ودعت إلي التنابذ والجدال والمزايدة وتفجير براكين الغضب والكراهية والتشويه وليتها وقفت عند حدود مناهضة الظلم والنضال ضد الفساد والاستبداد .
لقد طفحت سنوات ما بعد ثورة يناير وحتي اليوم بممارسات غير أخلاقية أعلت خصال السلبية والأنامالية والانتهازية والمظهرية والصراع والاستهلاك النهم وافتقاد الحس الوطني والمسئولية السياسية .. وهي الآفات التي أصابت قطاعًا عريضًا من الساسة والنخبة . وهو ما أفضي إلي تكريس ثقافة النهب والتكويش وإقصاء الآخر والتجريف التي كنا نباهي بها الدنيا في مصرنا الحبيبة .
وقد ساعد علي الانحطاط الأخلاقي عوامل عديدة في مقدمتها الإعلام بشتي صوره . وطائفة من شباب الجيل الجديد .. وكم كنا نرجو أن تحدث ثورة يناير تغييرًا إيجابيًا في سلوكيات وتصرفات المصريين بما يقربهم من مجتمع الفضيلة ويمكنهم من إصلاح البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المطلوبة . والتي دفعت الدولة لاتخاذ قرارات اقتصادية صعبة تأثر بها وعاني منها الجميع .
أما أسوأ ما حدث للمصريين بعد ثورة يناير فهو قيام البعض باستهداف مؤسسات الدولة وحرق منشآتها وأقسام شرطتها وهدم السجون وتهريب السجناء والخطرين علي الأمن العام . ناهيك عن اختراق الأمن القومي وإشاعة حالة من الذعر في المجتمع وما تبعها من خلل اقتصادي بعد توقف المصانع وتفجر الاضطرابات وانحسار الاستثمارات الأجنبية وتراجع السياحة وموارد الدخل القومي واستضعاف الدولة ولي ذراعها وتعطيل القانون وحصار المحاكم . وتحدي السلطات تارة بقطع الطريق وشل المرور وتعطيل المصالح . وتارة أخري باستفزاز الشرطة والجيش وجرجرتهما إلي معارك لا يستفيد منها إلا أعداء الوطن .
لقد انطلقت الثورة علي جناح السياسة هادفةً إسقاط النظام بلا عقل ولا قيادة ولا رؤية. مدفوعة بتحريض أطراف بعينها دفعت لهذا المسار حتي أن البعض ابتدع شعار "يسقط حكم العسكر" وقد أريد به تدمير الجيش وإسقاطه. وقد ردده للأسف كثير من المتظاهرين دون وعي بالمقاصد الخبيثة لمن ابتدعوه. ولولا ثورة 30 يونيو ما عادت اللىحمة بين الشعب وجيشه وشرطته ولذهب ريحنا وضاع بأسنا . لم يتورع بعض النخبة عن توريط الدولة والثورة في أزمات لا تزال تلقي بظلال ثقيلة علي المستقبل والحاضر أيضًا فقد أغرقتنا في جدال عقيم وسيوله سياسية. أنتجت حالة تشويش للوعي وارتباك واهتزاز للقيم وتشكيك طال كل شيء حتي النوايا وما تخفيه الصدور . وغاب عن تلك النخبة دروس التاريخ وعبره . وأن التغيير لا يبدأ بإسقاط الأنظمة بل بإسقاط المفاهيم المغلوطة والتقاليد البالية والأخلاق المرذولة فما فعله غاندي في الهند ومهاتير محمد في ماليزيا والرمز الصيني الزعيم ماو تسي تونج . يحتاج إلي نظرة تأمل فاحصة . فعندما لاحظ تونج اهتزازًا كالذي عشناه في مصر غداة ثورة يناير وانحطاطاً وفوضي وانفلاتًا أخلاقيا فقرر تفجير ثورة ثقافية في المجتمع الصيني يواكب بها ما تحقق من ثورة سياسية . فأي تغيير حقيقي في السياسة أو الاقتصاد لابد أن يرتكز بالأساس إلي تغيير جوهري عميق في ثقافة الشعوب وبنيتها الذهنية .. أما عندنا فقد حدث العكس . أغفلت النخبة والصفوة المعيار الثقافي والأخلاقي المهم في قيادة الشعوب نحو التغيير الإيجابي ولم يضبط أحد منهم متلبسًا بالحديث عن ضرورة إصلاح الأخلاق أو تغيير العادات والسلوكيات البالية وما أكثرها في مجتمعنا كالتواكل والكسل واللامبالاة والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام والفهلوة وهدم الآخرين للصعود علي أكتافهم .
لقد تنبه الرئيس السيسي لخطورة ذلك. وطالب الجميع إعلامًا ومؤسسات دينية وتعليمة وثقافية بدراسة تلك الظاهرة والبحث في طرق علاجها وتنوير الجميع بخطورتها ووضع حد للانفلات الأخلاقي الذي بلغ مداه حتي صرنا إزاء ظاهرة أخلاقية تحتاج إلي ثورة لاستعادة القدوة في كل موقع. واتخاذ قول النبي صلي الله عليه وسلم نبراسًا: كلكم راعي وكلكم مسئول عن رعيته.. ولا ننتظر أن يأتينا التغيير من أعلي. فالله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم.. فليبدأ كل منا بتغير نفسه إلي الأفضل وليكن: "شعارنا الوطن أولاً والأخلاق العليا دائمًا"
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف