مشاهدة أفلام الرعب تشبه ممارسة الجنس، استثارة متوقعة وتدافع للهرمونات، قبل أن تأتي لحظة الذروة، إحياء للغرائز البدائية، التي ضمنت لنا البقاء على ظهر الأرض، غريزة الجنس، التي تدفعنا إلى التزاوج والتكاثر، وغريزة الخوف، التي تحذر الإنسان ليحمي نفسه، وهما معًا جزء من غريزة البقاء، فقد عاش الإنسان سنوات طويلة فريسة الخوف عندما لم يكن الكون آمنًا، كانت كل غرائزه مستنفرة، لكن مع اختفاء هذه المخاطر خمدت هذه الغرائز، ظلت كامنة داخل الإنسان دون فاعلية، ما تفعله أفلام الرعب هو أنها توقظ جزءًا منها، ولو لفترة مؤقتة تسمح لنا بالتطهر من كل المشاعر السلبية، التي تتراكم داخلنا بفعل حياتنا العادية الخالية من الإثارة، وقد وصل الولع بأفلام الرعب لدرجة الهوس، فهناك من ينام على أعتاب دور العرض عند نزول كل فيلم جديد، ليكون أول من يدخل ويخاف وينفعل.
فيلم المشعوذ conjuring واحدٌ من هذه الأفلام، التي تمتلئ بالأشباح والأرواح الهائمة والقوى الشيطانية، التي تتلبس البشر، فيلم لا يختلف كثيرًا عن بقية أفلام الرعب إلا في أمرين، أولا: لأن هناك إصرارًا من صنّاع الفيلم على إثبات أنه قصة واقعية حدثت بالفعل، والثاني أنه أثار قضية أكبر تعويض مالي، يمكن أن يدفع في تاريخ السينما، خاصة أنه لم يعد فيلمًا واحدًا، فقد أنتج فيلم المشعوذ الأول في عام 2013، ثم عادت السينما وأنتجت المشعوذ 2 في العام الماضي، لتعود هذا العام لتنتج الجزء الثالث الذي أخذ عنوانًا مختلفًا هو أنابيلا، وبشكل عام أنا لا أحب الأفلام، التي تحمل أرقامًا، فلست من هواة استنساخ الأفكار مهما بلغت درجة نجاحها، لكن الإلحاح على فكرة استناد الفيلم إلى وقائع حقيقية هي التي تدفع الجمهور لمتابعة هذه الأفلام المتقنة الصنع.
يبدأ الفيلم الأول بانتقال أسرة مكونة من أب وأم وخمسة من بناتهما إلى بيت آخر، بيت قديم خشبي مليء بالأماكن المعتمة والسراديب الخفية، مزدحم ببقايا الأشياء المتربة وخيوط العنكبوت، تاريخ المنزل معروف، فقد كانت تسكنه امرأة أشيع عنها أنها تمارس طقوس السحر، وأنها قد ضحت بأطفالها كقرابين لعبادة الشيطان، ثم قتلت نفسها بعد أن صبت لعناتها على كل من يستولى على منزلها ومزرعتها وما زالت روحها الشريرة تسكن البيت، ومثل كل أفلام الرعب تبدأ الأصوات الغريبة في إقلاقهم منذ اليوم الأول، فعندما ينامون يشعرون بمن يجذبهم من الفراش، ويرون أشباحًا تتجول في أنحاء المنزل، ولكن ضحية الأشباح الرئيسية كانت الأم، فقد كانت تستيقظ كل يوم لتجد جسدها مليئًا بالرضوض والكدمات، كان شبح الساحرة القديمة يستهدفها هي بالذات، يريدها أن تضحي بواحدة من بناتها كما فعلت هي من حوالي قرن، وفي محاولة من الأم لتنقذ أسرتها تذهب لمقابلة الزوجين وارن.
إدوارد واورن وزوجته كارولاين شخصيات حقيقية أيضًا، يتهمهما البعض بأنهما مجرد نصابين، ويؤمن البعض الآخر بقدرتهما الخارقة على مطاردة الأرواح الشريرة، فقد نشأ إدوارد في منزل مليء بالأشباح، كان هناك شبح لامرأة عجوز تقف دائمًا على حافة سريره طوال الليل، وقد رسّخ هذا في اعتقاده أن للأشباح وجودًا حقيقيًا، فأخذ يقرأ حولها منذ وقت مبكر، وقد التحق بسلاح البحرية، لكن السفينة التي كان فردًا من طاقمها غرقت، وواجه الموت الفعلي في البحر، وعندما تم إنقاذه ظلت أرواح زملائه الغرقى تطارده، تعرف بعد ذلك على زوجته كارولين بعد أن أدرك أنها مثله تؤمن بعالم الخوارق، وزادت عليه بأن لها القدرة على الإحساس بوجود الأشباح ورؤيتها أحيانًا، وهكذا كونا معًا جمعية «نيو إنجلاند للأبحاث النفسية» هدفها طرد الأرواح من أجساد الذين تتلبسهم وتصيبهم بالأذى، ومن خلال عمله في مختلف البيوت المسكونة استطاع أن يقيم متحفًا لكل الأشياء، التي تقيم فيها الأرواح، التي أثارت فزع مالكيها، وحرص أن لا يحطمها حتى تظل الروح مستكينة في داخلها، ولا تخرج هائمة تبحث عن مأوى آخر.
يذهب إدوارد وزوجته إلى منزل الأسرة المنكوبة حاملًا أجهزة تصوير حساسة وأجهزة صوت فائقة للكشف عن وجود الأشباح، ويدرك من الوهلة الأولى أن البيت مليء بالأرواح الشريرة، التي لن ترضى إلا بتقديم واحد من الأطفال كأضحية للشيطان، ويقرر أن الوسيلة الوحيدة لتطهير المنزل هى الاستعانة بالكنيسة، ويذهب لمقابلة القس حتى يزور المنزل ويتلو آيات من الإنجيل لتغادره الأرواح، الأمر الذي شاهدناه من قبل في عشرات الأفلام، لكن القس هذه المرة يكون في غاية البيروقراطية، فهو يريد أولا أن يحصل على موافقة الفاتيكان، لكن الأحداث تتسارع، وتتلبس الروح الشريرة الأم حتى توشك أن تقتل ابنتها، ويضطر إدوارد في مواجهة الخطر أن يحل محل القس، ويأخذ في قراءة الإنجيل حتى يطردها بعيدًا، ويتحرر البيت من الأشباح.
لا يوجد شيء خارق للعادة في الفيلم غير الإتقان وزيادة كمية الرعب، ويصر المخرج في نهاية الفيلم على إثبات واقعيته، ويعرض الصور الحقيقية للشخصيات، التي مرت بها الأحداث، صور الأب والأم وبناتهما، صور طارد الأشباح وزوجته، صور من الجرائد التي نشرت أحداث البيت المسكون، كل شيء كما حدث في الواقع، وهذا ما أثار القضية التي تتحدث عنها أمريكا الآن، ففي ذروة النجاح، الذي تحققه هذه الأفلام الثلاثة، وما تجنيه من إيرادات عالية تقدم جيرالد بريتل مؤلف كتاب «طارد الشيطان» بعقد حصري موقع مع الزوجين وارن، كان الكاتب قد التقي بهما في بداية الثمانينيات وكتب عن قصتهما معا في مكافحة الأشباح، وكأي كاتب محترف وقّع معهما عقدًا أن لا يتحدثا عن موضوع الكتاب مع أي وسيلة إعلامية أو أي أحد من صنّاع الأفلام دون الرجوع إليه، أي أنه الوحيد صاحب الحق في تحويل الكتاب إلى فيلم، فما بالك بثلاثة أفلام، وقد ظل صامتا طوال هذه الفترة، ثم فاجأ شركة وارنر برزر منتجة الأفلام بطلب مبلغ 900 مليون دولار. تعويض هائل لا تستطيع أي شركة أن تدفعه بسهولة، وتحولت القضية إلى المحكمة، وكانت حجة كتيبة المحامين المدافعة عن الشركة أنهم لم يقتربوا من الكتاب، ولم يتحدثوا للزوجين وارن، لكنهم اعتمدوا فقط على وقائع التاريخ، وهي ملكية متاحة، ليس لأحد الحق أن يحتكر لنفسه حق استخدام الوقائع الحقيقية، وفي الجولة الأولى من المحاكمة لم يقتنع القاضي بهذه الحجة، وحكم لصالح المؤلف، ولكن ما زالت هناك جولة ثانية في إبريل القادم، وعلى الشركة أن تثبت أن كل ما حدث على الشاشة كان حقيقيًا، عليها أن تثبت أن الأرواح والأشباح وكل مظاهر القوى الخارقة موجودة، وهناك أدلة ملموسة على ذلك وإلا ستخسر هذا المبلغ الهائل. لقد تحوّلت القضية إلى محاكمة لكل أفلام الرعب، لكل الأوهام والخيالات التي تدور على الشاشة البيضاء، هل ستتمكن من إثبات ذلك، هذا هو السؤال؟