التحرير
علاء خالد
يدُ دنيا
وجدت يدها تضم أصابعي المستسلمة، بينما أنا مستلق في الغرفة الزجاجية لفحص القلب بالموجات الصوتية. كان الطبيب يعد لإجراءات الفحص بوجه مبتسم حنون. كنت منهكًا تمامًا، من تأثير أسبوعين قضيتهما في العناية المركزة بالمستشفى، وخوفي من أن يتم اكتشاف خلل ما فى القلب. أى جهاز رنين مغناطيسي أو موجات صوتية، أو أى جهاز يخرج منه ضوء، وينسخ، كمسَّاحة الضوء، صورة عن الداخل؛ يفضح تلك العلاقة مع هذا الداخل، وهذه الذات التى تشغله ويعريها، لكن فى مكان ليس به سر أو ذنب أو كنز، بل شكوك ومخاوف. ذلك المكان المتقشف لسكن الأعضاء الداخلية وكتلة المشاعر المشتبكة معها، والتى تُجر أيضًا لتقف تحت هذا الضوء الباهر للاعتراف.

نبتهل ونصلي داخلنا أمام هذه الأجهزة في تلك الدقائق الطويلة أو الساعات الطويلة أو الأيام الطويلة في انتظار النتيجة. عندما نطمئن، نشعر بأننا قفزنا حاجزًا لم يكن موجودًا أصلًا، ولم يكن فى حسباننا، وضعه أحدهم بعد بدء السباق، الذي ظهر مضماره فجأة بمجرد إحساسك بالمرض. لحظات ارتجال حرة، كأننا في حلم تخرج منه الحواجز، ويكثر فيه العدو بلا هدف، ونقف على حافة فوهة تنتظر ابتلاعنا.
في ذلك اليوم من شهر يناير عام 2014 في غرفة الموجات الصوتية، كنت برفقة "دنيا" ممرضتى الشابة التي كانت تقضي فترة تدريبها بالمستشفى. كنت مثل عهدتها الثمينة التي لن تفرط فيها مهما حدث. كان علي أن أقوم بعدة حركات بمساعدتها، مثل الجلوس والتمدد والتقلب على السرير. قبل الدخول فى هذه التفاصيل مررت بلحظات شرود وصلاة داخلية انتابتني قبل القفز فوق هذا الحاجز الجديد. كنت أفكر بمصيري. داخل هذه الغرفة الزجاجية المكشوفة، يكون المصير أيضًا مكشوفا ومقبضًا وحرًا فى آن، يتشكل أمامنا داخل أجهزة كشف الكذب هذه.

فى لحظات الشرود هذه قبل أن أبدأ فى إجراءات عمل الموجات الصوتية على قلبي، كنت أصلي داخلي صلاة صامتة، استسلمتْ فيها كل الحواس للقدر. بشكل لا إرادي قمت بفرد أصابع يدي اليمنى، ثم ضمها عدة مرات. ثوان ووجدت يدا أخرى تضم يدي، كانت دنيا ممرضتي التى كانت عينها حتى على شرودى وصلاتي الداخلية، والتى أصبحت مدربة على سماع صوت ذبذباتها الحزينة. هذه اللفتة الحانية من دنيا جعلتنى سعيدًا وقويًا طوال فترة الفحص. ربما هذه القوة حمتني ولم تجعل جهاز كشف الكذب هذا أن يكتشف أى خلل.

نشأت علاقة خاصة بيني وبين دنيا أثناء إقامتي بالمستشفى، وربما هي الآن تحكي عن مريضها فى حياة أخرى تعيشها. كنت أشعر بدورها الذى يفوق دور الممرضة. المرض وتوقع الموت وتوقع الشفاء أيضًا، يخلق هذه الرابطة القوية، والتي تتجاوز روابط إنسانية عدة، كونها رابطة مؤقتة معلقة بخيط رهيف يقع بين الحياة والموت. داخل هذه الرابطة هناك تأرجح وتمن وصلاة صامتة وشرود وخسوف نفسي وفرح عارم.
ظللت أتذكر هذه اليد التى غطت شرود يدي وصلاتها المستسلمة، كما غطت بالملاءة جزءًا من جسدي في مواقف أخرى عديدة أمام الغرباء. فعل التغطية، النفسية والجسدية، أساسي فى هذه الأماكن المجنَّبة فى عالم الأصحاء، لسبب بسيط، أن هناك عريا وتعريا دائمين للنفس والجسد. العري يحتاج دائما لمن يحنو عليه.

عند كل خروج لي من الغرفة ذهابا لأحد الأقسام الأخرى في المستشفى، كانت تصحبني دنيا وتسير بجانب الكرسى المتحرك، عينها على أى حركة تصدر مني. تمد أطراف الملاءة على الجزء المكشوف من جسمي، تستر هذا العري اللا إرادي. أتأثر جدًا بهذه الحركة الأمومية. لاحظت تعاطفها الشديد معى، وأحيانا كنت أتجاهله عن عمد كوني أقف فى المكان الأقوى لرؤية الحياة. كنت أشعر بقوة جاذبيتي ومركزية وجودي داخل هذا المجال الذى تصنعه دنيا من حولي. أستغرب من حضور هذه الجاذبية، التى يمنحها المرض، فى هذا المكان الذى بلا جاذبية. كأن الجاذبية تأتي من عالم آخر، وتأخذ نصيبها من هذا العالم الذى يرفرف فوقه ملاك الموت.

ربما يعود جزء من تعاطفها الاستثنائي معي لسبب شخصي يخصني أنا كمريض، بينما جزء أكبر منه يعود لهذا الشخص الآخر الجذاب الذي يُخضع قلوب الجميع وصلواتهم تحت أقدامه، ألا وهو المرض نفسه. كانت دنيا تحب المرضى، أكثر من أى شيء آخر.

كانت تفضل الدخول إلى غرفتي بسبب أو بدون سبب. تقترب من سريري وتحوم حوله دون هدف محدد. كانت عاطفتها ما زالت طازجة لم تُستهلك بعد، فقد كانت فى فترة التدريب والاختيار، لذا لم يكن أمامها حواجز من أن تخرج من هذا السباق نهائيا وتترك هذه المهنة المؤلمة.
بمجرد دخولها الغرفة تقوم بقياس درجة الحرارة، تتصرف كأم صغيرة، وتضع يدها على رأسي لتجس الحرارة قبل أن تضع ميزان الحرارة في فمي. أمي كان لها "جسِّة يد" مشابهة. تحولت يد أمي إلى جهاز ترمومتر إنسانى يحمل الكثير من الشك والتخوف من المرض، لأنى كنت طفلًا كثير التعرض للمرض والنكوص والجلوس فى السرير. تلك "الجسَّة" التي تعودت عليها من أمي كثيرًا، ومللت منها كثيرًا، وثرت عليها كثيرًا.

كانت دنيا تشعر بالخضة عند ارتفاع درجة الحرارة المفاجئ، وتأتي بكمادات الثلج، وتبدأ رحلة جديدة مع هذه الحرارة. بالتأكيد كانت تشعر بملكية مؤقتة لهذا الجسد المريض، كأننا نحن الاثنين نتشارك فى ملكية هذا الجسد الراقد، ونتشارك أيضًا فى استجاباته وحرارته ومشاعره وصورته الداخلية. ربما كانت صحتي تهمها أكثر مني، ليس لكونها ممرضة وهذا عملها، لكن لمشاعر ملكية مؤقتة تتولد في هذه اللحظات. لقد خلق المرض شركاء قفزوا معي أحد الحواجز العالية التى وضعها أحدهم فى منتصف الطريق.

ربما دنيا تركت المهنة الآن، وربما ما زالت تعمل وتؤنب قلبها الذى يذهب بها بعيدًا ويجعلها تتعاطف مع هؤلاء العراة، الذين يحتاجون لمن يغطيهم ويحنو عليهم، ثم يذهبون وينسونها ويتركونها حتى ييبس هذا القلب. عند خروجي من المستشفى كان اليوم الموافق لإجازتها. تركت لها عند خروجي أحد تذكاراتي الأثيرة، وتخيلت دومًا، وهى تفتح هذا التذكار وتبتسم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف