بوابة الشروق
جمال قطب
مصطلحات قرآنية 1ــ الرشد «أ»
استعمل القرآن لفظ الرشد ومشتقاته قرابة 20 مرة، والرشد وإن كان قيمة عليا يسعى الجميع إلى بلوغها إلا أن هذه القيمة العظيمة هى مقاصد لا يتحقق الرشد إلا باستيفائها. كما أن كل مقصد من مقاصد «الرشد» يقوم بوظيفة لابد من إنجازها وإتقانها.
ــ1ــ
أهم مقاصد الرشد وأبرز معاييره هو حرص الإنسان على «المشاركة» العامة التى لا يستغنى عنها الفرد، ولا يستمر المجتمع بدونها، و«المشاركة العامة» ليست مجرد جهد فردى يقوم به الفرد، بل هى مناخ عام يسود ويتسع للجميع ويستدعيهم ويشجعهم حتى يبلغ بهم القناعة التى تحمل كل إنسان المسئولية وإلا أصبح سببًا من أسباب تدهور المجتمع وتخلفه. لذلك تجد على مدى التاريخ البشرى أن كل اكتشاف وكل إبداع واختراع لم يتم الوصول إليه إلا فى مناخ مشجع على الإحساس بالمسئولية مطمئن إلى الاهتمام بما يعرض، أما إذا أحس الفرد أن جهده غير مطلوب أو على الأقل غير منظور فضلا عن أنه يسبب قلقًا له أو لغيره فهنا يعتزل المشاركة ويتوقف عن التفكير وتجف منابع التجديد وحيويته. فالمشاركة العامة المتفتحة والآمنة معيار هام من معايير المجتمعات الراشدة التى تدفع أعضاءها إلى تحمل الهموم والسعى إلى تفريغ الأزمات وتصفية الصراعات.
ــ2ــ
والمشاركة العامة ليست فوضى مفتحة الأبواب، بل هى مناخ متسع ومنضبط، فالإنسان يحس ويشعر بضرورة مشاركته العامة، كما يؤمن بأهمية «مراجعته ومساءلته» عما يقدمه من أفكار أو على ما يسعى إلى تجميع الناس حوله من اهتمامات.. فالمشاركة العامة تقوم على التخصص وتراكم الخبرات من ناحية كما تلتزم بحق المجتمع فى تبين جدوى ما يعرض وأثره على كيانات المجتمع المتعددة من مؤسسات وأفراد. والقرآن الكريم يضعنا أمام مثال حى للرشد ويبين فيه نموذج المشاركة الإيجابية الصادرة عن تخصص وقبول للمساءلة.
ــ3ــ
فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع إقراره بحق الآباء فى تربية الأبناء ووجوب طاعة الأبناء للآباء إلا أن الفطرة والمنطق والعقل تجعل طاعة الأبناء لآبائهم لا تزيد عن حلقة ضمن سلسلة عقلية.. هكذا يجلى القرآن «الرشد» إذ يقول ((ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هٰذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذى فطرهن وأنا علىٰ ذٰلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون)).
ــ4ــ
هذا هو الرشد.. أن يشعر الإنسان بحقه وواجبه فى المشاركة العامة وأن يقلب أفكاره حتى يبلغ بها مبلغ اليقين ثم يجد فرصة متاحة لعرض وتقديم ما وصل إليه على أن يكون متحملا لتداعيات فكرته...
ــ5ــ
وحتى نضع النقط على الحروف احتراسًا من المتسرعين غير الراشدين، فالنموذج القرآنى المشار إليه لا يفرض على المسلم تحطيم مقدسات الآخرين بل ولا مجرد تحقيرها، فالتحطيم أو التحقير أبعد ما يكون عن الإسلام وأشد بعدًا عن الفطرة والعقل وآداب المشاركة، ودليل ذلك قوله تعالى فى القرآن الكريم: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)). كما أن هذا النموذج الرسالى فى «إبراهيم» عليه السلام ليس مضادًا للفن أو «فن النحت» على التحديد، بل كان موجهًا لـ«تعبيد الناس» للأصنام بتخصيص معبد للأصنام يتربح منها أو بها هؤلاء الصانعون المسيطرون، وتفرض عبادتها فرضًا على النشئ والصغار، فكان الرشد الإبراهيمى متمثلا فى ربط طاعة الأبناء للآباء بضرورة طاعة الآباء للفطرة والعقل، وإلا فليس لهؤلاء الآباء حق الطاعة، بل لهم حق المصاحبة بالمعروف، ومشاركتهم فى كل ما لا يضاد الفطرة ولا يغضب الله..
يتبع
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف