الأهرام
ياسر بهيج
"الكنز" الذي أنقذنا من الموت ابتذالًا!
كعادتي في كل عيد ، وبما أنني ديمقراطي ، أن أعطي أولادي قرار فسحة العيد ، وفي عيد الأضحى المبارك ، كان قرارهم التمتع بمشاهدة السينما ، فذهبنا معًا لأحد المولات الشهيرة الراقية بالتجمع الخامس ، وأمام شبابيك سينما المول المتعددة ، المخصصة لأفلام العيد المختلفة ، طلبت منهم تحديد الفيلم الذي يرغبون في مشاهدته من أفلام النجوم ، ولكنهم من باب التقدير لديمقراطيتي ، تَرَكُوا لي مهمة اختيار الفيلم.
ولأنني واحد من عشاق المخرج الكبير شريف عرفة ، وشاهدت له تتر فيلمه الجديد "الكنز" ، الذي جمع فيه نخبة من نجوم الساحة ، قبل أيام من حلول العيد، فقد اختارت لهم مشاهدة هذا الفيلم ، وكلي خوف من ألا يعجبهم ، نظرًا لعمق مضمونه الرمزي ، واعتماده على قصص التاريخ المصري في عصور مختلفة ، إذ اعتاد أولادي ، ومن في أعمارهم على مشاهدة الفن السطحي المبتذل ، من أفلام ومسرحيات ، لاتقدم مضمونًا هادفًا ، ولا تعالج شيئًا من قضايا المجتمع ، وتعتمد على آفيهات الضحك فقط ، دون مخاطبة العقول والتأثير في النفوس ، وتوجيه الرأي العام للقيم الإيجابية ، كما اعتادنا في أزماننا ، وأزمان مَنْ قبلنا ، حينما كانت مصر قِبْلة الفن العربي ، وهوليوود الشرق .

ولكنني راهنت على اختياري ، في أن يرى أولادي الفن الهادف ، ويتعرفون إلى نجومه من المخرجين الكبار كشريف عرفة ، ليدركوا أن هناك أعمالًا فنية مختلفة تمامًا عما اعتادوا عليه ، لها قيمة ومضمون ، ويغسلوا عيونهم ولو لساعات من الابتذال والتسطيح ، لعل يحدث بداخلهم تأثيرًا معاكسًا ، ويغيرهم للأفضل في أسلوب معيشتهم ، وطريقة تفكيرهم .

من شدة الإقبال على شراء تذاكر الفيلم ، لم نستطع الحصول سوى على ٣ تذاكر في حفلة الثانية فجرًا ، وبالفعل تحملنا ٣ ساعات كاملة ، حتى موعد العرض ، من أجل مشاهدة متعة حقيقة ، وقيمة فنية مضافة ، وبالفعل منحنا "الكنز" المتعة والقيمة ، على مدار ساعتين ونصف الساعة ، وخرجت مع أولادي عائدًا إلى البيت ، وأنا أرى تأثير الفيلم عليهم ، وهم يتذكرون بعض مشاهد الفيلم ، ويعيدونها على ألسنتهم ، في سعادة وسرور ، ويقولون لي : ما أروعه ، بعد أن ارتوت عيوننا جميعًا من الجمال .

"الكنز" فيلم جاء في الوقت المناسب ، بمثابة الصدمة لزمن ساد فيه الإسفاف والاستسهال ، والاعتماد على قوالب فنية معلبة جاهزة للمشاهدين بال"القلش" ، وهو مصطلح الأجيال الجديدة ، البديل للقفشات والآفيهات ، لا تغذي عقولًا ، ولا تروي قلوبًا من قيم الفن الهادف ، فأعادنا القدير المخضرم عرفة ، ومعه الكاتب المتمكن عبد الرحيم كمال ، الذي اعتبره امتدادًا حقيقيًّا لجيل كبار كُتّاب السيناريو في الدراما المصرية ، أمثال وحيد حامد ، ومصطفى محرّم ، وأسامة أنور عكاشة ، وهو قريب الشبه بالأخير ، في تمكنه من المزج بين الواقع والتاريخ ، بهذا الفيلم التاريخي الفلسفي الرائع الذي أعادنا لزمن الفن الجميل ، زمن الرومانسية الناعمة ، والسينما التاريخية المجيدة ، التي تربعت على عرش الفن المصري والعربي زمنًا .

عبد الرحيم كمال سيناريست وكاتب من طراز خاص ، يتميز بكتاباته الفلسفية ، التي تفوح منها رائحة الصوفية العطرة ، وهو ما ظهر جليًّا في كتابته سيناريو رائعًا ل"الكنز" ، يمزج بين الواقع والتاريخ ، من خلال اقتباس شخصيات تاريخية محملة بقصص إنسانية قمة في الروعة ، من ثلاثة عصور متعاقبة هي : الفرعوني ، والعثماني ، والحديث (حقبة الأربعينيات) ، يربط خيوطها الحب الصوفي الجميل ، وبانسيابية سرده للأحداث ، التي جاءت مشوّقة ، متصاعدة بشكل تدريجي ، يشد عين المشاهد ، فلا يشعر بالملل أو الفتور ، حتى وصلت إلى "الحبكة" ، التي امتزجت فيها أحداث القصص الثلاث في مشهد إبداعي واحد ، ختم الفيلم بنجاة الحب مما يحيق به من دسائس الكره ، وانتصاره على الحاقدين بالقوة ، ليظهر عظمة الحب وقوته ، عبر العصور والأزمان ، التي لا تخبو أبدًا .

وساعد على إبراز فكر كمال ، التصوير الذي أبدعه أيمن أبو المكارم في تجسيد المشاهد ، باستخدام الكاميرات المتحركة التي تسبب متعة أكثر لعين المشاهد ، والموسيقى التصويرية لهشام نزيه ، التي جاءت قمة الروعة في التنقل من مشهد لمشهد ، والتعبير عن كل مشهد بإبداع ، حافظ على تركيز المشاهدين ، في حين جاء اختيار الديكورات وأماكن التصوير لأنسي أبوسيف ، موفقًا للغاية ، ومعبرًا بدقة عن الفترات الزمنية للأحداث ، كان أجملها مشهد الحب بين حتشبسوت وسنموت على البحيرات ، الذي عكس جمال الطبيعة ، وأعطى سحرًا وثراء للمشهد ، كما جاء جرافيكس ياسر النجار جاذبًا ومبهرًا ، والملابس للستايلست ملك ذو الفقار مبهرة وعاكسة للفترات الزمنية ، وخاصة أزياء حتشبسوت وبشر الكتاتني والمطربة نعمات رزق ، ولكن أزياء الكهنة ومريدي على الزيبق جاءت أقل مستوى .

نأتي لمايسترو الفيلم المخرج العملاق شريف عرفة ، الذي صنع فيلمًا إبداعيًّا ، مستخدمًا خبرات السنين ، وشخصيته الإخراجية القوية في قيادة كوكبة لايستهان بها من نجوم الساحة من مختلف الأجيال ، منهم هند صبري ، ومحمد سعد ، ومحمد رمضان ، وأمينة خليل ، ومحيي إسماعيل ، وسوسن بدر ، وعبد العزيز مخيون وأحمد رزق ، وروبي ، وهيثم أحمد زكي ، وأحمد حاتم ، وغيرهم ، وإلباس كل منهم رداء الشخصية المناسبة له ، فجاء أداؤهم التمثيلي كلهم ممتعًا ومقنعًا ومبدعًا ، وقد أطلق من داخل كل نجم منهم أقصى طاقاته الإبداعية ، وهي مهارة لايتميز بها سوى المخرجين الكبار أصحاب البصمات .

لكن الإبداع الحقيقي لعرفة ، وبصمته القوية تمثلا في مفاجأته جماهيره بإخراج نجمين كبيرين هما محمد سعد ، ومحمد رمضان ، من ردائيهما اللذين تدثرا بهما طويلًا ، خلع عن سعد رداء الكوميديا والشخصية الهزلية الذي ارتداه زمنًا طويلًا ، وكان سبب شهرته ، وألبسه رداء مخالفًا تمامًا ، في قمة الجدية والقسوة ، هو شخصية اللواء بشر الكتاتني ، رئيس القلم السياسي في الأربعينيات ، وقد برع سعد في تجسيد الشخصية بكل تفاصيلها ، ليثبت أنه ممثل حقيقي يجيد كل الأدوار ، ولكنه اكتشف نفسه في هذا الدور الصعب العنيف ، الذي لم يعتاده جمهوره ، ولكنه راق للعيون وأقنع العقول ، وبات عليه التغيير بعد رسالة عرفة له .

في حين خلع عن نجم الجيل محمد رمضان رداء شهرته ، ولفت عينيه إلى أن بداخله قدرات تمثيلية كامنة ، أقوى بكثير من تجسيد شخصيات معتادة كالبلطجي ، وتاجر المخدرات ، ووضعه في الشخصية القوية التي تليق بموهبته وتكوينه الجسماني المثالي كبطل شباك ، وهي علي الزيبق البطل الشعبي المأثور في التاريخ الشعبي المصري في العهد العثماني ، فأعاد تشكيل رمضان فنيًّا ، الذي أبدع في أداء هذا الدور بخفة حركته وخفة روحه ، وتألق في مشاهد الرومانسية مع روبي ، التي أدت دور زينب بنت المقدم حسن الكلبي قاتل والده ، ولمع أكثر في مشهد هروبه من الإعدام ، ومعاركه مع خصومه ، ويتبقى ذكاء رمضان في فهم الرسالة ، وتغيير ثوبه في الفترة المقبلة بشخصيات أكثر تأثيرًا في المجتمع المصري ، وليس مجرد شخصيات على هامشه .

ولفت نظري أيضًا من كوكبة نجوم الفيلم ، الأداء الناعم للنجمة الشابة أمينة خليل لدور المطربة نعمات رزق التي وقع بغرامها اللواء بشر الكتاتني ، والصوت القوي الساحر لمطربة الأوبرا نسمة محجوب ، وخفة دم الممثل الواعد أحمد أمين في أداء دور المونولوجيست ، وخفة دم النجم أحمد رزق في أداء دور عبد العزيز النشار مساعد بشر الكتاتني في البوليس السياسي ، والأداء الواثق لهاني عادل في شخصية سنموت ، وكالعادة ظهر النجوم هند صبري في شخصية حتشبسوت ، وسوسن بدر في دور أم علي الزيبق ، وعبد العزيز مخيون في شخصيات الحكيم آني والشيخ على الله والسجين بأروع ما يمكن من الأداء الفني ، والإحساس بالشخصية .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف