الأهرام
بهاء جاهين
بعيدا عن الضوضاء.. قريبا من السكات
عنوان هذه المقالة هو عنوان آخر روايات الكاتب المغربى محمد برادة (عن دار الآداب 2014). وأعتقد أن مفتاح فهمها يأتى من تأمل هذا العنوان, الذى لا أراه مرتبطاً بأحداث الرواية, إنما يرتبط بموقف الكاتب والقارئ من تلك الأحداث. فنص برادة الأخير يقف على مسافة وسطى بين تاريخ وطنه المغرب منذ الاستقلال (1956) وبين حكاية سردية تجمع ثلاث شخصيات محكى عنها, إضافة للراوى أو الحاكي. فنحن إزاء نص روائى كاتبه هو أحد شخصيات الرواية؛ هو - كما يصف نفسه - «مساعد مؤرخ», شاب عاطل عن العمل متخرج فى قسم التاريخ بإحدى جامعات المغرب, كلفه أحد أساتذة التاريخ هناك بجمع مادة توثيقية عن تاريخ بلاده منذ الاستقلال, ولأن الشاب, واسمه الراجي, هو أيضاً قارئ هاو للروايات, فقد أغوته المادة التاريخية الطازجة التى جمعها إلى استلهامها فى رواية. والرواية التى كتبها الراجى - وهى ليست بالضبط رواية برادة الأكثر تركيباً- تقف بنا فى محطة وسط بين الفعل الروائى والتحليل التاريخى الأكاديمي, محطة أكثر قرباً من السكات منها إلى الضوضاء؛ أى أكثر قرباً للتفكير والتأمل منها إلى الفعل والحدث الدرامى الساخن. وهو موقف إبداعى أنتج لغة تبتعد عمداً عما هو أدبيّ وشعريّ وتقترب مع سبق الإصرار من لغة المقالة والنصوص الأكاديمية. وقد تجد نفسك وأنت تقرأ, فى الصفحات الأولى والوسطي, تعانى بعض المقاومة والتململ من تلك اللغة «غير الأدبية», لكنك لا تلبث, مع انكشاف بنية العمل وخطوطه الرئيسية, أن تجد تلك اللغة منسجمة مع شخصية الراوي.

وقد اختار الراجى لروايته - أو الرواية داخل الرواية - ثلاث شخصيات: أولها توفيق الصادقي, وهو محام «مخضرم» وُلد قبل استقلال المغرب بربع قرن. هو نموذج للوطنيّ الذى نشأ وتكوّن وعيه مع تصاعد الحركة الشعبية الطالبة للاستقلال والتحرروالحالمة بيوتوبيا قومية. وهو فى نفس الوقت من النخبة الاجتماعية التى تلقت التعليم والتنوير فى مدارس الاستعمار, وتمكن عبر ذلك الوضع الاجتماعى والثقافى المتميز من بلوغ مكانة رفيعة فى عهد الاستقلال فى خمسينيات القرن الماضي, وقد دفعه طموحه, ورغبته فى المحافظة على تلك المكانة, إلى الصمت ونشدان الأمان الشخصى إزاء تحول الحياة السياسية فى مجتمعه - فى ستينيات القرن العشرين المسماة فى وطنه بـ «أزمنة الرصاص» - إلى أحادية متنامية وتراجع لحلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة كما يحكى لنا الراوي. أما الشخصيتان الروائيتان الباقيتان فقد وُلدا كلاهما عام (1956), أى مع ميلاد المغرب المستقل فى نفس العام. أولهما محام يعمل فى مكتب توفيق الصادقي, ارتقى حتى صار شريكاً له, اسمه فالح الحمزاوي؛ وثانيهما امرأة متخصصة فى التحليل النفسى وصاحبة صالون أدبى اسمها نبيهة سمعان. والاسمان دالان على شخصية صاحبهما: فـ «فالح» ارتقى اجتماعياً ونجح فى الصعود من بيئة أسرية عمالية إلى مركز مرموق, سواء كمحام أو كعضو فى حزب بدأ ثورياً ثم تدجّن وصار أليفاً ومشاركاً صورياً فى الحكم, بعد اتجاه النخبة الحاكمة أو «المخزن» إلى شكل ديمقراطى كما تحكى الرواية. أما «نبيهة سمعان» فاسمها ولقبها يعكسان ذكاءها ومهنتها التى تعتمد على الاستماع: إلى أوجاع الناس القاصدين عيادتها, أو إلى أفكارهم فى صالونها الأدبيّ.وكلاهما- العيادة والصالون- يعكسان رؤية الكاتب للغة والتعبيركطريق للخلاص. قيمة الرواية فى اعتقادى تنبع من شكلها الخاص والفريد, حيث التحليل التاريخى يمتزج بالإبداع الروائى منتجاً لغة تشرب من النبعين معاً. وهى رواية كالمسرح البريختي, لا تنغمس معها فى الأحداث وتتوحد بالشخصيات, بل تظل يقظا متنبهاً محايداً تفكر.. وربما كان هذا هو هدف برادة من روايته البعيدة من الضوضاء القريبة من السكات.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف