د/ شوقى علام
من دروس الحج (١) الصبر والتسليم
تشتمل شعيرة الحج على دروس جامعة تعلي من شأن مكارم الأخلاق، لأنها تربي الحاج قلبا وعقلا وجسدًا على الأمور الحميدة والعوائد الحسنة بما يرسم طريقًا ميسورًا مختصرا للتخلي عن القيم السلبية والأخلاق السيئة، ومن ثمَّ تتجلي الكمالات المحمودة على قلب المسلم وعقله حتى يصير ذا خلق عظيم.
ولا شك أن سمات استقامة الأفراد ومظاهر صلاح المجتمع ودلالات تقدُّم الأمم والشعوب تدور في أصلها حول الالتزام بالأخلاق ومراعاة القيم التي ترجع في مجملها إلى خُلُق الصبر، فهو أصل أكثر الخيرات والدرجات، وهي ثمرة له، وفي ذلك تفسير لتكرار حث الشرع الشريف للمسلمين بالتخلق بالصبر والتحقق بأسبابه ومراتبه، وقد جاءت بذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكربة، وأن مع العسر يسرا”(مسند أحمد/ 2803).
والحج عبادة كبرى تُعَدُّ من أعظم مواطن الصبر؛ فهو يشتمل على حقيقته التي تظهر في مدى قدرة المرء على منع نفسه من فعل الشهوات وداوعي النفس أو مجرد محاولة تحصيلها لخوف ضرر أو عقوبة، كما تتجلى في إمكانية تحمل المرء المشقة دينية أو دنيوية رغبة في حصول النفع والثواب، مع اشتمال شعائر هذه العبادة الجليلة على أنواع الصبر السلوكية والبدنية.
إن الحاج يتحمل في سبيل أدائه لهذه العبادة عددا من المتاعب والمصاعب كإنفاق الأموال والغربة عن الوطن والأهل، وما يتعرض له من مشقة السفر وكثرة التنقل من مكان إلى آخر ومن مشعر إلى آخر، فضلا عما تتطلبه مناسك هذه الشعيرة من جهد بدني واستطاعة جسدية من الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي والمبيت بالمشاعر المقدسة ورمي الجمرات، ابتغاء كثرة الثواب وجزيل الفضل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها بشأن النسك: “إن لك من الأجر قدر نصبك ونفقتك”(سنن الدارقطني/ 2729).
كما يخالف الحاج وجوبًا دواعي النفس إلا فيما أحله الله تعالى،ويمنع جوارحه الظاهرة والباطنة من ارتكاب الشهوات والتكلم بالكلام الفاحش والبذيء، واقتراف ما من شأنه إحداث الفتن وإثارة الضغائن والأحقاد التي تشغل الحاج عن روح العبادة؛ امتثالا لقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجّ)[البقرة: 197].
وهو مأمور أيضًا بأن يتخلى عن أي مظهر من مظاهر التفاخر؛حتى يكون مع إخوانه من الحجاج كالجسد الواحد، حقًّا وحقيقةً؛ مع مخاطبته بلزوم الإحسان في التعامل مع غيره ومقابلة الإساءة بالحسنى، فضلا عن تهيئة نفسه وتحليتها بكل ما يجب على الضيف القيام به عند مضيفه، فلا يتأذى من الأمور التي قد تحدث في المشاعر من زحام ومشقة أو تدافع أو عند رؤية معاملة غليظة، حتى لا تضيع عليه ثمرة جهده وسعيه.
والمتأمل في مناسك الحج وشعائره يجد أنها تحمل في مضامينها كذلك ترسيخ قضية التسليم والامتثال لأوامر الشرع الحنيف لأنها أصل التعبد وعليها بناؤه وهي من صور خُلُق الصبر وتجلياته؛ فرحلة الحج ما هي إلا استجابة لدعوة الله وامتثالا لأمره، وإقامة لركن من أركان شريعته، وفيها يقهر الحاج نفسه؛ تقربًا إلى الله تعالى واتِّباعًا لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبذلك فعلى المسلم الطالب لسبيل النجاة الالتفات إلى جوهر شعائر الإسلام خاصة مناسك الحج وأحكامه، فلا ينبغي له أن يقف فيها عند الالتزام الشكلي والتدين المظهري فقط، وإن كان أداؤها يُسقط المطالبة بالقضاء مرة أخرى، بل يطلب منه في حال أدائه إياها على وجهها المشروع أن يتحقق بمقاصدها التي شُرِعَت من أجلها من ربطها بالخالق وحده وتعظيمه تعالى وإقامة ذكره وشكره على نعمه الظاهرة والباطنة والتحلي بمكارم الأخلاق.