الدستور
كمال الهلباوى
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ «3-3»
فى هذا المقال نستكمل ما قاله المفسرون فى تفسير هذه الآية الكريمة: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».
وفى خواطر الشيخ محمد متولى الشعراوى، نقرأ أن معنى قوله: (فَسَيَرَى) ذكر الفعل مرة واحدة، فالرؤية واحدة ملتحمة بعضها ببعض، لتروا هل أنتم على المنهج أم لا؟ {وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، أما علم الغيب فانفرد به الله سبحانه، وأما عالم الشهادة فالرسول سوف يعلم عنكم أشياء، وكذلك المؤمنون يعلمون أشياء، وربنا عالم بالكل.
وسبحانه لا يجازى على مجرد العلم، بل بنية كل إنسان بما فعل، وسبحانه يقول: {كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، ولذلك يُنهى الحق هذه الآية بقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.. وهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، وربطوا أنفسهم فى السوارى، وتصدقوا بالأموال، وأعطى الله فيهم حكمه بأن جعل رسول الله هو من يحل وثاقهم من السوارى، وقبل منهم الصدقات؛ ليسوا وحدهم، فهناك أناس آخرون فعلوا الأمر نفسه، لكنهم لم يربطوا أنفسهم فى سوارى المسجد، ولا اعترفوا بذنوبهم، لذلك يجىء قول الحق: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ...}.
وفى تفسير الألوسى نقرأ أن معنى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}، أى ما تشاءون من الأعمال {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} خيرًا كان أو شرًا، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب، والسين للتأكيد، كما قررنا، أى يرى الله تعالى البتة {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول للأشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علمًا جليًا، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه، إما بالوحى أو بغيره.
وأخرج أحمد وابن أبـى الدنيا فى «الإخلاص» عن أبـى سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنًا ما كان»، وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا، لأنهم الذين يعبأ المخاطبون بإطلاعهم، وفسر بعضهم «المؤمنين» بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشىء، ومثله بل أدهى وأمر ما زعمه بعض الإمامية أنهم الأئمة الطاهرون، ورووا أن الأعمال تعرض عليهم فى كل اثنين وخميس بعد أن تُعرض على النبـى صلى الله عليه وسلم.
وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة، ويكون ذلك خاصًا بالدنيوى من إظهار المدح والإعزاز مثلًا وليس بالردىء، وقيل: يجوز إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها. وتعقب بأن فيه التزام القول برؤية المعانى وهو تكلف، وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد، وأنت تعلم أن من الأعمال ما يُرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الالتزام المذكور، على أن ذلك الالتزام فى جانب المعطوف لا يخفى ما فيه. وأخرج ابن أبـى شيبة وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرأ {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} أى فسيظهره.
{وَسَتُرَدُّونَ} أى بعد الموت {إِلَىٰ عَـٰلِمِ الْغَيْبِ} ومنه ما سترونه من الأعمال {وَالشَّهَـٰدَةِ} ومنها ما تظهرونه، وفى ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى. {فَيُنَبّئُكُمْ} بعد الرد الذى هو عبارة عن الأمر الممتد {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قبل ذلك فى الدنيا والإنباء مجاز عن المجازاة أو كناية، أى يجازيكم حسب ذلك إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.. ففى الآية وعد ووعيد.
وفى تفسير الكشاف الزمخشرى نقرأ الآتى: {وَقُلِ} لهؤلاء التائبين {اعْمَلُواْ} فإن عملكم لا يخفى - خيرًا كان أو شرًا - على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم. والثانى: أن يراد غير التائبين ترغيبًا لهم فى التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. فإن قلت: فما معنى قوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـٰتِ} قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إن الصدقة تقع فى يد الله تعالى قبل أن تقع فى يد السائل والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ} وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.
وفى تفسير الفيروز آبادى نقرأ أن: {وَقُلِ} لهم يا محمد {اعْمَلُواْ} خيرًا بعد التوبة {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ويرى الله ورسوله {وَالْمُؤْمِنُونَ} ويرى المؤمنون {وَسَتُرَدُّونَ} بعد الموت {إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد، ويقال ما يكون {وَالشَّهَادَةِ} ما علمه العباد ويقال ما كان {فَيُنَبِّئُكُمْ} يخبركم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وتقولون من الخير والشر}.
أما فى تفسير الأمثل فى كتاب الله المنزل، نقرأ الآتى: وتؤكّد الآية التى تليها البحوث التى مَرَّت بصورة جديدة، وتأمر النّبى صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) فهى تشير إِلى ألا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملًا، سواء فى خلوته أو بين الناس، فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه، بل إِنَّ الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون به، إِضافةً إِلى علم الله عزَّ وجلّ.
إِنَّ الالتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر فى تطهير الأعمال والنيات، فإنّ الإِنسان - عادة - إِذا أحسّ بأنّ أحدًا ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته، فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفًا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه، فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!
إِنَّ هذا الاِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذى ينتظره فى العالم الآخر، لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
نسأل الله لحجاجنا جميعًا العودة سالمين إلى ديارهم وعيد سعيد وكل عام وأنتم بخير.. وبالله التوفيق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف