التسمم درجات وأنواع، تسمم قد يحدث نتيجة تناول غذاء فاسد، أو دواء فاسد، أو استخدام أدوات فاسدة، وقد يصل التسمم إلى الدم، فيكون الوباء أشد والعاقبة أسوأ، غير أن الأسوأ من هذا وذاك هو التسمم الفكرى، ذاك أن أثر التسمم المادى مهما كان خطيرًا ربما لا يتجاوز الشخص المصاب، أو الأشخاص المصابين، وحال إمكانية علاجه والسيطرة عليه فإن أثره إلى زوال، غير أن أثر التسمم الفكرى قد لا يقف عند حدود الشخص المصاب ولا عند حدود مكانه ولا زمانه، إنما كثيرًا ما يتجاوزه إلى محيطه على سعة أو ضيق هذا المحيط ، وقد يتجاوز حدود الزمان الذى يعيش فيه إلى عقود وقرون وأجيال وأجيال، وقد يتجاوز هذا الأثر مجرد الانحراف الفكرى إلى عمليات مدمرة، بعضها قد يكون تكفيرًا، فتفجيرًا، فقتلاً وتدميرًا، أو إفسادًا وتخريبًا، وبعضها قد يكون عمالة وخيانة وطنية، أو بيعًا للوطن وأهله بثمن بخس.
وإذا كان المشرع قد وضع عقوبات للتسمم المادى وفق ما يترتب عليه من آثار وجرم من حيث التلاعب بطعام الناس أو غذائهم أو دوائهم أو كسائهم إهمالا كان ذلك أم قصدًا بغية التربح والثراء السريع, وشرع عقوبات لبيع السلع الفاسدة التى تدمر الصحة وتودى بالحياة، ويلحق بذلك المتاجرة فى السموم البيضاء وغير البيضاء من المخدرات بكافة أشكالها وأنواعها لما تسببه من إتلاف للعقل وخلايا المخ وانهاك وتدمير لصحة الإنسان وحياته، فإننا لفى حاجة إلى قوانين أكثر ردعًا لهؤلاء المجرمين الذين يسممون عقول الناشئة والشباب بأفكار مدمرة، ودعوات صراح للتكفير والقتل، وفى حاجة أشد لقوانين أكثر حزمًا فى تجريم الفكر الإرهابى وبثه ونشره، سواء أكان بطريق مباشر، أم من خلال مواقع التواصل، أم من على صفحات أو شاشات بعض وسائل الإعلام العميلة المأجورة.
ونؤكد أن علماء الدين ورجال الفكر والثقافة والتربية والتعليم والإعلام أمام مهمتين عظيمتين جليلتين كبيرتين:
الأولى : إدراك خطورة الفكر الإرهابى والعمل على تحصين الناشئة والشباب والمجتمع كله من شرور هذا التسمم الفكرى، بعدم تمكين أى من أصحاب أو كوادر الفكر المتطرف من تشكيل عقول الناشئة أو الشباب، وتنقية جميع مؤسسات تكوين العقل والفكر، دينية كانت، أم تربوية، أم تثقيفية، أم تعليمية، أم إعلامية من أى خلايا نائمة أو مستترة لتلك الجماعات الضالة المضلة المتطرفة، واجتثاث عناصرهم الإرهابية من هذه المؤسسات.
الأخرى وهى الأهم : العمل على ملء الفراغ وشغل الساحة بكل ما هو نافع ومفيد ومثمر ومحصن لأبنائنا من خطر هذه الجماعات والأفكار، ذلك أن أهل الباطل لا يعملون إلا فى غياب أهل الحق، وإذا فرط أصحاب الحق فى حقهم تمسك أصحاب الباطل بباطلهم، فعلينا جميعًا أن نتكاتف معًا، وأن نعمل معًا، وأن نسابق الزمن يدًا واحدة فى مواجهة قوى الشر والإرهاب والضلال التى تحيط أو تتربص بنا.
كما أننا فى حاجة إلى مساندة مجتمعية لافظة للإرهاب رافضة له، بحيث لا يمكن أن يقبل مواطن واحد أن تكون منطقته حاضنة للإرهاب أو الإرهابيين، ذلك أن الإرهاب لا دين له، ولا عهد له، ولا وفاء له، ولا يؤمن إلا بنفسه, وأنه يأكل من يدعمه، ومن يربيه، ومن يصنعه، ومن يموله، ومن يتستر عليه، وأنه عندما يصاب بالسعار لا يفرق بين عدو وصديق، لأن أصحابه يفقدون كل حس إنسانى، ويتجردون من كل صفات وخصائص الإنسانية، بل إنهم يصيرون أكثر همجية ووحشية من أى حيوان مفترس، ذلك أن الحيوان المفترس قد يتحرك فى محيط جغرافى لا يتجاوزه، ولا يفترس إلا قدر شهيته أو حاجته للطعام، أما هؤلاء فهم كما حكى القرآن الكريم عن من تمردوا على الله «عز وجل» وتخلوا عن كل معانى الأديان العظيمة والإنسانية السوية، فقال الحق سبحانه وتعالى عنهم : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»، وقال سبحانه : «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ»، وهما كما ذكر المتنبى:
ممن تأشب لا دين ولا خلق
فهؤلاء المارقون الضلال لا هم أهل دين، ولا أهل أخلاق، ولا أهل قيم، ولا أهل إنسانية، إنما هم مسخ انسلخ من كل معانى الأديان والإنسانية ومن الآدمية، فصاروا مسخًا آخر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا إلى عالم الإنسان ولا إلى عالم الحيوان، إنما هم إلى مسخ آخر ذى طبائع خسيسة لم تشهدها البشرية من قبل، إنها طبائع الإرهاب والإرهابيين.