ليست هناك دولة تعتمد المعونات أداة رئيسية من أدوات تنفيذ سياستها الخارجية وجزءا لا يتجزأ منها سوى الولايات المتحدة, صحيح هناك دول كبيرة تُقدم بعض المنح أو تتبنى برامج مساعدات فى قطاعات معينة إلا إنها لا ترقى إلى هذا المستوي, والسبب واضح وهو امتلاك وسيلة ضغط على الدول حتى تتماشى سياساتها ــ إن لم تتطابق ــ معها, وهو أسلوب أقرته منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهورها كقوة عظمى على الساحة الدولية. بعبارة أخري, إن تقديم واشنطن أى مساعدات لابد أن يرتبط بديهيا بأهداف سياسية واستراتيجية أكبر مما يبدو على السطح وأن شروط تقديمها قابلة دائما للتوسع فيها, سواء كانت شروطا تتعلق بالشئون الداخلية أو الخارجية.
فى هذا السياق يمكن قراءة قرار اقتطاع وتجميد جزء من المعونة المقدمة لمصر, والذى ستظل له تداعياته على مجمل العلاقات المصرية الأمريكية, فالمعروف أن هذه المعونة تقررت بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979 (أى لأسباب سياسية بحتة تتعلق بتوجهات السياسة الإقليمية المصرية) وأن لها شقين: عسكرى (1٫3 مليار دولار سنويا) واقتصادى (815 مليون دولار سنويا خُفضت تدريجيا حتى وصلت إلى 250 مليون دولار سنويا) وبالقرار المشار إليه, الذى صدر على خلفية اتهام القاهرة بعدم الالتزام بالمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان خاصة بعد التصديق على القانون الجديد لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية, تم إلغاء 95٫7 مليون دولار من الشق الأخير، وتجميد أو تأجيل صرف 195 مليون دولار أخرى من المساعدات العسكرية.
والواقع وبرغم الضجة التى صاحبت هذا القرار, فإنه لم يكن الأول من نوعه, فقد سبق لإدارة باراك أوباما السابقة أن علقت المعونات لمدة عامين ومعها بعض صفقات سلاح وأوقفت التدريبات العسكرية المشتركة (النجم الساطع) بعد ثورة 30 يونيو والإطاحة بحكم الإخوان الذى أيدته, فضلا عن خلافاتها الأخرى مع السياسة المصرية فى الملفات الإقليمية من سوريا إلى ليبيا, وكذلك فعلت قبلها إدارة جورج بوش الابن فى زمن مبارك لنفس الأسباب (المعايير الديمقراطية) إلى جانب قضية أنفاق غزة, أى دائما خليط من الأسباب الداخلية والخارجية.
لكن مصدر الانزعاج هذه المرة, أن قرار تخفيض المعونة أتى فى ظل إدارة دونالد ترامب, الذى تربطه علاقات جيدة بالرئيس عبد الفتاح السيسي, والذى أعلن مرارا أنه لا ينوى التدخل فى شئون الدول وتهميشه لأجندة الديمقراطية وحقوق الإنسان على عكس من سبقوه, لدرجة أن علق الدبلوماسى والسياسى الأمريكى الشهير مارتن إنديك ساخرا على القرار بقوله إنه أشبه بقرارات أوباما التى طالما انتقدها ترامب.
الحقيقة أن الرئيس الأمريكى مهما بلغت سلطاته وصلاحياته يظل مقيدا بمؤسسات الدولة التى تشاركه صناعة القرار, مهما تمرد عليها (كما فى حالة ترامب) وفق نظام صارم للتوازن بين السلطات, فللكونجرس مثلا سلطات موازية للرئيس, الذى لا يستطيع تعيين معاونيه (وزرائه) وسفرائه للدول الأجنبية إلا بموافقته وله الحق فى استدعائهم والاستماع إلى شهادتهم فى كل الأمور الخاصة بسياسات الدولة فى الداخل والخارج, وكذلك بالنسبة للاعتمادات الخارجية, بل إن حقه فى الاعتراض على القوانين (الفيتو الرئاسي) يتم تجاوزه إذا ما صوت ضده الكونجرس بأغلبية الثلثين مثلما حدث مع أوباما عندما حاول إيقاف إقرار قانون «جاستا» (العدالة ضد رعاة الإرهاب) الذى قيل إنه يستهدف السعودية أهم حليف لأمريكا فى المنطقة.
المتابع لسير الأحداث يلاحظ أن الكونجرس بالذات كانت له مواقف معادية للنظام المصرى طوال الفترة الماضية, وهو الذى طالب أكثر من مرة بجعل المعونة لمصر مشروطة, وقد كتبت فى هذا المكان تحت عنوان «أزمة الكونجرس مع مصر» فى 6 مايو الماضي, عن جلسة الاستماع التى بُنى عليها القرار وكانت لثلاثة من الخبراء والسياسيين والدبلوماسيين السابقين (ميشيل دن, إليوت أبرامز, توم مالينوسكي) الذين أكدوا هذا المطلب خاصة ما يتعلق بالمساعدات العسكرية, باعتبار أن تخفيض المعونات الاقتصادية كان قد تقرر لجميع الدول وفقا لما أعلنه البيت الأبيض, والأخطر من ذلك هو ما أثاروه حول نمط تسليح الجيش المصرى ليتم التركيز فقط على نوع الأسلحة الضرورية لمواجهة العمليات الإرهابية فى سيناء, وبعد ما يقرب من شهر أصدر ثلاثة من أهم النواب الجمهوريين, أى من المنتمين لحزب الرئيس (جون ماكين, ليندسى جراهام, ماركو روبيوـ ومعهم تسعة أعضاء آخرين) بيانا توجهوا به للرئيس يحمل نفس المضمون, ولأن ترامب يعانى من مصاعب وأزمات داخلية عديدة فلم يكن فى وضع يسمح له بتحدى الكونجرس أو حزبه الذى يشكل الأغلبية بداخله, فالأمر لا علاقة له بقناعاته الشخصية.
أما السبب الآخر الذى كشفت عنه الواشنطن بوست فى تقرير مطول لها بعنوان «مصر قد تكون أحدث جبهة فى معركة ترامب مع كوريا الشمالية», والذى أرجعت فيه السبب فى خفض المعونة إلى علاقة مصر ببيونج يانج واستمرار تعاونها معها رغم الحصار المفروض عليها, فهو ينطبق تحديدا على الرئيس الأمريكى, الذى أعلن صراحة أنها تشكل تهديدا مباشرا لأمن الولايات المتحدة ولحلفائها كاليابان وكوريا الجنوبية، فضلا عن أوروبا بل والعالم أجمع ــ على حد تعبيره ــ بسبب تجاربها النووية والصاروخية الباليستية وتصديرها هذا النوع من التسليح, وسبق أن وضعها فى نفس خندق إيران التى يعتبرها مصدر الإرهاب فى العالم, ولا شك أن عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن بهذا الخصوص بطلب أمريكى يعكس مدى الأهمية التى تحتلها هذه القضية لدى واشنطن. لذلك أراد ترامب بقراره الأخير الخاص بمصر أن يضرب عصفورين بحجر واحد, بمعنى أن يحتوى الكونجرس من ناحية ويضغط لتنفيذ أجندته الخاصة بكوريا الشمالية من ناحية أخري.
إن ما يمكن استخلاصه من هذه الأزمة الطارئة فى العلاقات المصرية الأمريكية يشير إلى ضرورة عدم قصر أى رهان سياسى على شخص الرئيس الأمريكي, فالتواصل مع المؤسسات الأخرى لا يقل أهمية عن الرئيس, وأن القضايا الإقليمية والدولية الخلافية يجب أن تُحل من خلال القنوات الدبلوماسية والسياسية وليست وسائل الإعلام المحلية, التى لا تُخاطب إلا نفسها مثلها مثل الكتابات التى طالبت الدوائر المصرية الرسمية بالاستغناء الفورى عن المعونة, لأنها فى النهاية لا تُقاس فقط بقيمتها المادية وإنما هى رمز للعلاقات الإستراتيجية بين القاهرة وواشنطن ما لم تقرر مصر خيارا آخر.