كلنا ننجذب إلي العناوين الكبيرة.. تشدنا الشعارات والهتافات المسجوعة فنصفق لها.. "عيش ــ حرية ــ عدالة اجتماعية".. لكننا بعد أن ننتهي من التصفيق ونهدأ نبدأ في التفكير.. والتفكير يأخذنا إلي التفاصيل.. كيف نترجم هذه الشعارات والهتافات في الواقع.. هنا نختلف ونتصادم.. وكثيراً ما قرأنا أن الشيطان يكمن في التفاصيل.. بمعني أن الشيطان يثير الخلافات حول الجزئيات الصغيرة في التنفيذ.. فيكون هناك اجماع علي العناوين العريضة ولكن الخلافات والصراعات تظهر حول التفصيلات الدقيقة.
ولقد عانينا كثيراً بسبب عدم قدرتنا علي الانتقال من الشعار إلي التطبيق لكثرة خلافاتنا حول التفاصيل.. وأدي ذلك إلي أن تظل شعاراتنا مرفوعة من 25 يناير 2011 إلي اليوم.. وعند كل محاولة لتحويل الشعار إلي واقع تصيبنا حمي الانقسام والفرقة.
وأستطيع في هذا الصدد أن أقدم ثلاثة شواهد واضحة بجلاء لتأكيد ما أقول.. وهي علي النحو التالي :
¼ العدالة الاجتماعية.. كانت شعاراً قوياً ورناناً علي ألسنة الجميع في ميادين الثورة.. حتي صرنا من كثرة ترديده متأكدين من معناه ومغزاه ومن قدرتنا علي تطبيقه مباشرة بكل سهولة.. لكن بعد أن هدأنا وأصبح علينا أن نفكر فيما نعنيه بالعدالة الاجتماعية وكيفية تطبيقها اتضح أن المسألة أكثر عمقاً وتعقيداً.. وفي الحكومات التي أعقبت الثورة تم اسناد ملف العدالة الاجتماعية إلي المفكر الاقتصادي اليساري البارز د. جودة عبدالخالق لوضع تصور متكامل عن العدالة الاجتماعية وتطبيقه.. ومكث د. جودة في منصبه علي قدر ما مكث ثم ذهب.. وذهب غيره ممن تولوا هذه المهمة دون أن ينجزوها.. حتي استقر الملف عند وزير العدالة الانتقالية الحالي الذي لم يقدم إنجازاً ولم يضع مفهوماً محدداً للعدالة الاجتماعية أو العدالة الانتقالية منذ عامين وإلي الآن.. واكتشفنا أن انجازنا الوحيد في ملف العدالة الاجتماعية عبارة عن سيل من الكلام والتصريحات والشعارات العامة الكبيرة المتراكمة دون ترجمة إلي واقع علي الأرض.
¼ أيضاً.. القائمة الوطنية أو "القومية" في الانتخابات كانت ومازالت مطلباً من أجل ضمان دخول كتلة من أصحاب الكفاءات السياسية والقانونية إلي البرلمان القادم وتمثيل أوسع للفئات المهمشة : المرأة والشباب ومتحدي الاعاقة.. وهللت الأحزاب والقوي السياسية لهذا المطلب.. لكن عند التنفيذ كان الفشل كبيراً بسبب الخوض في التفاصيل.. فقد شكلت تحالفات وتحالفات مضادة.. ثم ظهرت تحالفات جديدة أحدثت هرجاً في المشهد السياسي وأدت إلي تفكيك أحزاب عريقة.. وهناك الآن تخوف كبير من أن يجري دمج التحالفات في قائمة واحدة وهو ما يجعل الانتخابات القادمة أشبه باستفتاء بلا مضمون وبلا منافسة ويفقد الانتخابات معناها ويعرض البرلمان القادم للخطر.. وبسبب هذه التفاصيل الدقيقة المختلف عليها مازالت الانتخابات تؤجل.. ثم تؤجل.
¼ الشاهد الثالث شعار مرفوع منذ ما قبل ثورة 25 يناير وإلي اليوم وسيظل مرفوعا غداً وإلي زمن طويل قادم دون أن نعثر له علي مفهوم محدد.. أقصد شعار "تجديد الخطاب الديني".. كل الناس تتحدث عن تجديد الخطاب الديني.. وتعقد من أجله المؤتمرات والندوات.. ويتسابق الجميع للإدلاء بدلوهم حول أهمية وضرورة وحتمية تجديد الخطاب الديني.. لكن اذا سألت ماذا يعني تجديد الخطاب الديني سيدخل الجميع في تفصيلات متناقضة ومتضاربة تزيد الأمر غموضاً بدلاً من أن تيسر تطبيقه وترجمته إلي واقع ملموس.
ومصيبتنا بعد ذلك كله أن شعاراتنا كثيرة وجميلة ورنانة.. لكن تنفيذنا لهذه الشعارات موسوم بالعجز والفشل.. لذلك تظل شعاراتنا مجرد شعارات وتظل أحلامنا مؤجلة.