الأهرام
صلاح سالم
تزويج الكتابى بين حاكمة النص وحركية التاريخ
فى الرؤية القرآنية للوجود تدين كل المخلوقات بإسلام فطرى، فلا تملك إلا طاعة الله والخضوع للقوانين الكونية. ولهذا يطلق القرآن الكريم أحيانا وصف الإسلام على المؤمنين والكافرين، المنقادين لله بحكم خلقه لهم: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَات وَالأَرْضِ طَوْعا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون» (آل عمران: 83). غير أن الاستعمال القرآنى الغالب يُقصر وصف الإسلام على المؤمنين بالله طوعا، فأتباع نوح وإبراهيم وموسي وعيسي ومحمد مسلمون. يقول نوح لقومه: «وَأُمِرْتُ أَنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ» (يونس:72). ويعقوب يوصي بنيه: «فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» (البقرة:132). وأبناء يعقوب يجيبونه:«قالوا بنَعْبُد إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة:133). وموسى يقول لقومه: «يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ» (يونس: 84). والحواريون يقولون لعيسى: «نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران: 52). ثم يسرد القرآن سيرة الأنبياء الذين ينتظمهم عقد واحد، يجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء: 92). وهكذا ينطوى الإسلام كـ «دين توحيدى عام» على الإسلام كـ «شريعة تنزيهية خاصة»، ويضيف إليها أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين.

فى ظل هذا الفهم، تتبدى مشروعية نقاش زواج المسلمة من الكتابي، رغم وجود إجماع تاريخى يُحِّرمه، كونه إجماعا غير مؤسس على نص قرآنى محكم كما هو الشأن فى أحكام المواريث التى رفضنا سلفا المساس بها؛ فالآية الكريمة التى تقول: «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم» (البقرة: 221)، لا تتحدث عن أهل الكتاب بل عن المشركين، غير المؤمنين بأى من شرائع التوحيد حسب الاستعمال القرآنى الغالب. كما لا تقطع بالتحريم بل تشى بتفضيل المسلم على غيره، ومن ثم يمكن نسبتها إلى غير المحكم على صعيد الوضوح الدلالى فى لغة القرآن، وتحديدا إلى (الظاهر) الذى يسمح بالتأويل. وإذا كان الرئيس التونسي قد اقترح حرية زواج التونسية المسلمة من الأجنبى دون تحديد، فإننا نقترح قصر الإباحة على الكتابى، حتى لا نجد أنفسنا خارج حدود النص، فيستحيل التأويل تلوينا يهدر روحه. غير أننا لا نصدر فتوى ليست من حقنا قطعا، بل ندعو فقط إلى فتح باب الاجتهاد لبناء إجماع جديد، يحقق توافقا أكبر بين حاكمية النص وحركية التاريخ تأسيسا على عدة إيجابيات:

أولاها: تجسير الهوة بين الإسلام وبين أصليه اليهودى، والمسيحى، ويمنحه وجها إنسانيا شاهقا، كما يجعله أكثر اتساقا مع نفسه، فطالما أنه يقبل بزواج المسلم من الكتابية، فالأوفق أن يقبل بالعكس، إذ لا يصمد هنا تبرير الرفض بمقولة أن الكتابى لا يعترف بالإسلام، وأنه قد يمنع زوجته من ممارسة شعائرها، لأن هناك كثيرين يعترفون بالإسلام بل ويقرِّظونه دون أن يدخلوا فيه. وظنى أن تبرير الإجماع القديم إنما يكمن فى الروح القبلية التى ترى فى زواج المرأة بمن هم خارج القبيلة إهدارا لشرفها، خصوصا أن هذا الإجماع قد نشأ فى ظل حالة تاريخية تتمدد فيها الأمة المسلمة، وتفتح غيرها من الأمم، ما كان يشعرهم بنوع من السيادة والعلو على غيرهم، وهى حالة لم تعد قائمة الآن. لقد حدثت تطورات كبيرة فى بنى التاريخ أنضجت الشخصية الفردية، إلى درجة صار متصورا معها وجود ذلك الرجل الذى يتزوج امرأة من غير شريعته، ويكون قادرا على احترام إيمانها الروحى فى مجتمع متمدن يقوم على أساس المواطنة وحريتى: الاعتقاد والتعبير.

وثانيتها: إشاعة السلم المجتمعى خصوصا فى البلدان المتعددة الأديان كمصر، فالمعروف أن العلاقات العاطفية مثلت رافدا أساسيا للفتنة الطائفية فى ربع القرن الماضى، وجميعنا يذكر كيف تكررت حوادث دامية لمجرد أن فتاة قبطية هجرت عائلتها للزواج بمسلم، أو أن مسلمة هجرت أهلها لرغبتها فى الزواج من قبطى. ففى الحالين كان الاضطراب يعم البيئة المحيطة بالعاشقين، وكان العنف يندلع، والأرواح تزهق، قبل أن تتدخل الدولة، فى أعلى مستوياتها، لرأب الصدع، وهو سلوك عبثي لا يمت بصله لزمننا، يسعى إلى التحكم فى عواطف البشر وقمع إنسانيتهم، على أهمية تلك العاطفة، فالإيمان بالله ليس إلا حبا كبيرا مقدسا، مثلما أن الغرام الإنسانى يمثل إيمانا بفرادة المحبوب وتميزه، وليس من مصلحة أحد أن يكسر تلك الدائرة الحميمة بين الإنسان وعواطفه، إيمانا أو حبا، فهذا الكسر لن يثمر سوى أرواح معذبة، وضمائر ممزقة لا تصلح للإيمان أساسا. والمؤكد هنا أن أقباط مصر، مثلا، سوف يظلون على رفضهم زواج المسيحية من المسلم، معطلين الإجماع الإسلامى القديم، ما دام المسلمون يرفضون زواج المسلمة من المسيحى، ولذا فإن بناء إجماع جديد، سوف يحرر الطرفين من هواجسهم، ويطلق الإجماع الأول من عقاله، لتسود روحانية التعايش والمحبة.

ثالثتها: أن تشريع الأمر فقهيا لا يعنى تحققه موضوعيا، فأغلب القيود ينتج من الأعراف الاجتماعية، وقد يجد كثيرون من أطراف العلاقات العاطفية العابرة للأديان أن تتويجها بالزواج أمر صعب رغم الإتاحة الشرعية، والحماية القانونية، فينصرفون عن الأمر بإرادتهم الشخصية، أى دون نزاعات أو عنف أو فتن طائفية. وقد يتجرأ البعض ممن توافرت لديهم إرادة التحدى على تتويج العاطفة بالزواج، وهنا نصبح أمام مباراة مثيرة وإيجابية، فإما أن ينجحا فى إكمال المسيرة ليصبح لدينا مجتمع أكثر سلما وتسامحا، وإما أن يفشلا، ليصبحا مثلا يعتد به، يشى بصعوبة الأمر فينصرف عنه الآخرون طوعا لا قسرا.

أما الرابعة: أن هوية الأطفال الذين ينجمون عن الزواج المختلط، لا تمثل عائقا مانعا لهذا التحول، وأقترح هنا عدم تحديد ديانتهم فى شهادة الميلاد، وأن يؤجل ذلك إلى وقت عمل البطاقة الشخصية فى سن الثامنة عشرة مثلا، ليكون الشاب أو الفتاة قد خبرا الشريعتين عمليا، واستجابا إلى صوت ضميرهما ميلا إلى هذه أو تلك، وعندها نكسب مواطنين واعين، يختارون دينهم بدلا من وراثته عبر التقليد، ما يمثل بداية خلاص من التطرف الدينى، فالإيمان الواعى غالبا ما يتسم بالتسامح؛ ويتأسس على قاعدة الفهم والتفهم، ومن ثم يتحول أبناء هذا الزواج المختلط إلى جسور للتعاون داخل مجتمع أظنه سيصبح أكثر تمدينا وسلما وربما إيمانا بالمعنى العميق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف