نبيل عبد الفتاح
فوزي سليمان: حاملُ المحبة وموزع اللطافة والجمال
الكتابة عن بعض الشخصيات تبدو صعبة، وعصية، وتراوغك الكلمات المفاتيح تفكر في مداخلها، وسرعان ما تتراجع عندما تتأمل الشخصية مجددًا، وعلاقتك بها وبالآخرين، وربما لفرط ما يبدو أنها تتسم بالبساطة الذكية، وبالروح الآسرة، أو لأنها مشغوفة باهتمام ما، أو هواية، أو مهنة ما وتجيدها، وتعطيها حياتها. إلا أن إمعان النظر يجعلك تتريث وقد تتراجع في بعض الأحيان. تحاول الكتابة عن هذه الشخصية، وتتوقف حينًا، وأنت تحاول التعمق في تحليل مسارات حياتها، وتسعى لالتقاط بعض ملامحها الرئيسة علها تقودك إلى فهم أكثر عمقًا لها، ولإسهاماتها في مجالها الذي أحبت.
الصديق العزيز فوزي سليمان هو واحد ممن تقف أمام مسارهم المهني ككاتب وناقد سينمائي ومدرس تاريخ، في اضطراب، وتوتر خشية عدم قدرتك على الوفاء بحقه كإنسان مفتون بإنسانيته، وبحبه للإنسان مطلق الإنسان، لا سيما المصري. إنسان مفتون بالمصريين دونما صخب أو ادعاء، ومؤمن بقدراتهم وتاريخهم ومواهبهم وإمكانياتهم، على الرغم من الأسى الذي يشملك من واقعهم التاريخي الراهن، من تخلف وتردٍّ في مستوياتهم وتشظيهم، وتفككهم، وفقدانهم القدرة على الانبعاث والنهوض مجددًا، في عالم يتسم بالاضطراب، وغياب اليقين والأمل.
رجل امتلك إيمانًا بقدرة المصريين على الرغم من بؤس واقعهم المعاش، وربما يعود ذلك إلى أنه درس تاريخهم في إطار تاريخ المنطقة والعالم، ولأنه كمدرس للتاريخ في المدارس الثانوية خبر دورهم ونهوضهم، وانتكاساتهم، وعرف مصادر الدراما التاريخية لهذه الأمة، ومكامن الأعطاب في تكوينهم الاجتماعي والسياسي والثقافي. رجل ومثقف حاملُ لثقة تاريخية في قدرات أمته حتى في بعض لحظات اليأس الفردي أو الجماعي، لأنه يرى في بصيرة وعمق النظرة تاريخ بلاده وأطواره من الصعود والهبوط والانهيار، كأحد شرائط السينما التي عشقها وبدت له كأنها حياته في عوالمها المختلفة.
كان التاريخ وسردياته والدراما، والتراجوكوميديا التي ينطوي عليها، هو مدخله إلى السينما وعوالمها المتنوعة التي افتتن بها وأعطى لها عمره. منذ عمله كمدرس للتاريخ في المدارس الثانوية، كانت الكتابة جزءا من اهتماماته إلى جانب تعليمه لتلاميذه الدرس التاريخي الذي أصبح مدخله إلى فهم السينما. أخذ من مهنة مدرس التاريخ مهارات السرد، والتحليل، والنقد والتركيب والاستخلاص، والقدرة على الشرح وتبسيط المعقد ليغدو سلسًا أمام تلاميذه. استصحب فوزي سليمان المثقف والناقد والإنسان المحب هذه الخبرات إلى عوالم الصورة الفاتنة، وإلى المدارس السينمائية والإخراجية الجديدة وموجاتها المعقدة، دارسًا لها ومحللاً لشفراتها، وتعقيداتها، كي يقدمها لجمهورها شفاهة وكتابة، وميسرًا لفهمها على المشاهد العادي الذي تعود على بساطة، وربما سذاجة السرد الفيلمي الميلودرامي، أو الكوميدي المصري، وأدمن أيقوناته، ومعه السرد البصري الأمريكي وبعض الإيطالي على النمط الأمريكي الرئيس (الوسترن) (Western) الذي يعتمد على سينما الحركة، والعنف، أو بعض من قصص العشق والحب والمغامرة والتضحية والوفاء.... إلخ. الناقد والمثقف والإنسان الموهوب فوزي سليمان حاول أن يفتح عيون عشاق السينما على مفاتن أخرى في السرديات البصرية لمدارس خارج الأنماط السائدة التي اعتادت عليها العيون المشغوفة بجماليات السرود البصرية النمطية التي أدمنتها، إلى عوالم غير مألوفة، إلا أنها تفتح العيون والمخيلة والوجدان على الوعي بالتعقيد الإنساني.
كانت السينما الألمانية ومدارسها وتاريخها وكبار مخرجيها أحد مراكز شغفة بسرودها البصرية، من فيم فيندرز، وفاسبندر، وهيرتزوج وسواهم من الذين أحدثوا نقلة نوعية في مسار السينما الأوروبية والعالمية لا سيما في عقد السبعينيات وما بعده، وكانت مدخله لسينما أوروبا الشرقية أيام انقسام العالم إلى إمبراطوريتين وكتلتين -الاشتراكية والرأسمالية الغربية- أثناء الحرب الباردة. كانت سينما ومخرجو أوروبا الشرقية في المجر، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا، والاتحاد السوفييتي تقدم رؤى وسرديات بصرية مختلفة، وتبدو مغايرة للمعتاد من السينما الأوروبية والأمريكية. كان العالم مختبرات سينمائية مفعمة بالتجارب الجديدة، في الموجة الجديدة الفرنسية – جاك لوك جودان وصحبه وسينما المؤلف، والواقعية الإيطالية الكلاسيكية والجديدة، تفتح آفاقا بصرية وسردية تتسم بالطزاجة غير المألوفة، إلا أن السينما الألمانية كانت نسيج وحدها في أيام الانقسام الألماني إلى شرق وغرب معًا.
من هنا كانت مواطن اهتمامات المثقف والناقد الكبير والصديق والإنسان المحب فوزي سليمان بالتجربة والأحرى التجارب الجديدة حول المدارس السينمائية الأوروبية، وداخلها وفي عمقها الألمانية. هل نستطيع القول إن فوزي سليمان، مدرس التاريخ، والكاتب وناقد وعاشق السينما، لعب دور الوسيط بين السرد السينمائي، وبين المشاهدين من محبي هذا الفن الفاتن؟ أم كان ميسرًا لهم، لكن دون مصادرة لحريتهم في التلقي؟ أستطيع القول نعم صريحة، وبلا تردد، لأنه استصحب كما قلت سلفًا خبرة المدرس لدروس التاريخ، وسردياته وتعقيداته ومشكلاته إلى ما يمكن أن نطلق عليه الانتقال من درس التاريخ إلى درس السينما، في الأول الوقائع وتأويلاتها ونتائجها وانعكاساتها ودلالاتها هي مركز الخطاب حول التاريخ، في الثاني السرد في الصورة وحركتها، وملامح الوجوه، وحركة الكاميرا، وتركيزات الأنوار والظلال، ومركز الصور وهوامشها الدالة هي بؤر الصور ومحورها في السرد البصري، حيث التدرج والتنوع والأضداد والتناسقات بين الأبيض والأسود، وفي عالم الألوان ودلالاتها الموحية يتم تحليل مساحاتها وأضوائها.
من هنا استطاع الناقد الكبير فوزي سليمان أن يجعل من نادي السينما في معهد جوته بوسط القاهرة، مركزًا للدرس حول السينما الألمانية وموئلاً للعشرات من محبى هذا الفن الجميل وعشاقه، يأتون للاستماع إلى الدرس السينمائي في بساطة ودون تعقيد في الشرح، وفك لمغاليق لا يعرفها سوى النقاد الجادين. كان النقد السينمائي في مصر، ولا يزال يعتمد على سرد الحكايات، وبعض الملاحظات التي تبدو ساذجة، في تقديم الأفلام المصرية أو الأمريكية أو غيرها، أو تقييم أداء الممثلين والمخرجين وهناتهم وأخطائهم أو مدحهم، والترويج لهم، أو حول التصوير والإخراج والموسيقى التصويرية، هذا الاتجاه الغالب أسهم في تدهور الذائقة البصرية، "وأمية العيون" بتعبير كميل حوا، ثم كامل زهيري.
كانت ولا تزال الاستثناءات حاضرة، لكنها محدودة. لأن غالب من مارسوا النقد السينمائي لم يكونوا سوى بعض من الهواة لا يملكون لغة التخصص، وعمق الممارسة النقدية، أو المتابعة للأدبيات النقدية ونظرياتها ومدارسها المقارنة في عالمنا. اعتمد العزيز فوزي سليمان على عشقه للسينما، وعلى قراءاته في المجلات والكتب المتخصصة حول السينما، وعلى مشاركاته في المهرجانات الكبرى في عالمنا، برلين، وفينيسيا وكان، وكارلو فيفاري، وغيرها.
لم يكن من هؤلاء الذين يحاولون الاستعلاء بالمصطلحات السينمائية، وإنما كان دوره هو التيسير لا التعسير على المشاهد، وربما يعود ذلك إلى دور المدرس الذي استصحبه من دروس التاريخ إلى شرح السرود الفيلمية، دون ابتذال.
كنت أتابع مشاهدة السينما الألمانية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات في معهد جوته، والسينما الإيطالية في المركز الإيطالي بالزمالك، وعديد الأفلام الأخرى في نادي سينما القاهرة، وأشارك في النقاشات حول السينما الألمانية هيرتزوج، وفاسبندر، وفيم فينذرز وآخرين، مع الصديق فوزي سليمان وآخرين، وطلب منى أن أقوم بالتحضير لتقديم وإدارة النقاش حول فيلم فاسبندر "الخوف يأكل الروح أو أحدهم يدعي على"! طلبت منه مشاهدة الفيلم في عرض خاص، فوافق، ثم إطلاعي على بعض الكتابات النظرية والتطبيقية حول سينما فاسبندر، في إطار مخرجي السبعينيات في ألمانيا، فأعارني شاكرًا كتابًا بالإنجليزية، وبعض المقالات.
كان فوزي سليمان شخصًا معطاءً، يود أن تتحول السينما إلى رغيف خبز، طازج يحملُ الجمال، والحس والذائقة البصرية إلى الجميع. كان يود أن يوزع الجمال البصري على العابرين، للارتقاء بحساسيتهم وثقافتهم، إنها نزعة عطاء محمولة على الكرم دون منّ، أو استعلاء. طلبت منه مرارًا أن يجمع كتاباته حول السينما، وأن يجلس ليدون مسيرة حياته، وحاولت تشجيعه -أقولها بتواضع واحترام شديد لشخصه- بعد تجاوزه سن التسعين عامًا من عمره الجميل -ولا يزال عقله يقظا!- وأبدى حماسة ما، إلا أن ثقل العمر والوهن والمرض حالا دون شروعه في إنجاز هذا العمل، على الرغم من تقديمي تصورًا لتخطيط مسار الشخصية يعتمد على المنهج القائم على المزاوجة بين المراحل التاريخية، "والثيمات"، والشخصيات، وبين العام والخاص، كنت أود أن يطرح مثقف مصري مسار حياته وعوالمه التي ارتادها وعاشها إلى أجيال جديدة طالعة من الألم والحلم والإحباط والفشل شبه الجماعي للدولة والنخبة والمجتمع، يبدو تاريخيًا ومستمرًا وسياجات من القيود، ومعتقلات للروح في عالم من الانفتاح والكونية وقهر الكبار في الشمال إلى الصغار والأقزام لفشلهم وديكتاتورياتهم المتعددة في الجنوب.
هل كانت حماسته لحظية في جلساتنا في مقهى ريش؟! أم أن الوهن قد نال منه؟! أم هي نظرة وخبرة العمر عند النهايات المحمولة على عبثية الحياة؟ أم هي عبثية الحياة الشاقة والقاسية وقيودها في وطنه؟! أم أنه رأى كل ما كان يدعو له، وعاشه في وطن وأمة واحدة موحدة يتآكل ويتشظى، في حياته كنتاج للتطرف العنيف، والعنف ذي الوجوه والتأويلات الدينية، وهو المسيحي المصري الوطني الإنساني؟! لا أكاد أعرف ما أسبابه ودوافعه، ربما كل ما سبق من أسئلة؟! إنسان جميل، ومشرق في طلته، عندما كان يتوكأ على عصاه خطوة بطيئة وراء أخرى، وهو يدلف إلى الباب الضيق لمقهى ريش، كانت تبدو ملامحه محمولة على الحزن، وعلى إرادة صلبة ومحبة للحياة! عندما يراني ومعى ثلة من الأصدقاء، تبدو على وجهه ابتسامة مشرقة، وتلويحه بيده محييًا. شخصية جميلة بسفرها الطويل في الغروب -كما قال أجدادنا- يفتقد الرأسمال الإنساني المصري اللطف والمحبة والصداقة والجمال بعض من القيمة والمعنى، هذا ليس مبالغة لإنسان مر في الحياة وترك ظلاً وارفًا، ولم يكن سوى روح محمولة على البساطة، ووجه مترع بمحبة الحياة والسينما والناس.
ذهب إلى الأبدية في سلام، وأتصور أن روحه الجميلة تبسط جمالها وتجانسها حيث ذهب وحلَّ مع القديسين مع السلامة أيها الصديق العزيز الجميل فوزي سليمان.