لمصر دور لا ينكره أحد فى حمل رسالة التوحيد إلى العالم، وإذا نحّينا لبعض الوقت مسألة إيمان «إخناتون» بعقيدة التوحيد وكفاحه فى نشرها، فى زمن كان يعد الإنسان الوحيد «العائش فى الحقيقة»، كما يصف «نجيب محفوظ»، والتفتنا لبعض المواضع فى التراث، فسنجد أنها تشهد فى مناسبات عدة على ذلك الرباط الذى ربط بين المصريين وعقيدة التوحيد، فقد وفد نبى الله إبراهيم إلى مصر وتزوج من «هاجر»، ومن المعلوم أن «ملة إبراهيم» هى ملة التوحيد وأصل الإسلام، ومن «هاجر» أنجب إبراهيم - عليه السلام - الذبيح إسماعيل جد النبى محمد صلى الله عليه وسلم. عقيدة التوحيد كانت معروفة فى مصر. ويكفى فى هذا السياق أن نسترجع بعض المشاهد من قصة نبى الله «يوسف»، كما حكاها القرآن الكريم.
تعلم أن امرأة العزيز فُتنت بفتاها يوسف، وذابت فيه عشقاً، ولما افتضح أمرها، وتحدث نسوة بالمدينة بغرامها بيوسف، أرسلت إليهن، وأعدّت لهن وليمة، ثم أدخلت يوسف عليهن، فقطّعن أيديهن بعد أن خلبهن جمال الفتى، وكان أن راودت امرأة العزيز فتاها عن نفسه، وحاولت قسره على ذلك، فأبى الفتى واستعصم، ثم كانت واقعة دخول العزيز عليهما وهما فى هذا المشهد. يقول الله تعالى: «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ». لو أنك تأملت تفسير «ابن كثير» لهذه الآيات فستبصر عجباً: «قال تعالى فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، أى هذا الذى جرى من مكركن، أنتِ راودتِه عن نفسه ثم اتهمتِه بالباطل، ثم ضرب بعلها عن هذا صفحاً، فقال: يوسف أعرض عن هذا، أى لا تذكره لأحد، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذى صدر منها والتوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذى يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له فى ذلك».
يقر «ابن كثير» فى هذا النص بأن المصريين كانوا يؤمنون بعقيدة التوحيد، و«أنهم يعلمون أن الذى يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له فى ذلك»، لكنه حاول المراوغة بصورة مضحكة عندما ذكر أنهم كانوا يعبدون الأصنام، وهو نوع من الاختزال فى التفكير، إذ من الواضح أن الرجل لم يكن يعلم عن عقائد المصريين شيئاً، فأسقط عليهم فكرة «الوثنية» التى شاعت فى الأوساط الصحراوية العربية. ويبدو أن يوسف عليه السلام تأثر هو نفسه بعقائد المصريين، وخصوصاً فيما يتصل بمسألة التوحيد، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجده وأباه يعقوب التمسا طقوس المصريين، خصوصاً ما يتعلق منها بالموت. فيوسف ويعقوب عليهما السلام لم يجدا مشكلة فى الخضوع لتقاليد المصريين فى التحنيط والدفن وطقوس العزاء، ومن المعلوم أن طقوس الموت لدى المصريين تجد أصولها فى عقيدتهم التى كانت قائمة على التوحيد.