يظل الحديث عن الفساد هو الشاغل الأكبر لعموم الناس فى بلدنا، لأسباب عديدة، تبدو أهمها، ارتباط حوائجهم بالتماس مع منظومته العفنة التى تجبر الغالبية منهم على التعايش معها، وسط ضبابية المعلومات وصعوبة الحصول عليها، أضف إلى ذلك غابة من الإجراءات البيروقراطية المعقدة، بحيث يصبح الحصول على مستند أو معلومة، أشبه بالدخول فى غرفة مظلمة، والموظف المسئول هو الوحيد الذى يعرف كيفية الخروج منها دون أن تصبك أى خسائر.
ومع ذلك تتوالى الأيام، متشابهة، فى أحوالها، يتوهج فيها الحديث حول الفساد لحظة إعلان القبض على أحد الفاسدين، منددين بما وصل إليه أمرنا، ثم يخفت مرة أخرى، ورغم أن نفوسنا تملؤها الغبطة نتيجة الجهود الطيبة للجهات الرقابية فى محاربة الفساد بشكل لم تشهده مصر من قبل، إلا أن الحسرة تقض مضاجعنا بمشاهدة هذا الكم من الفساد.
الحرب على الفساد متشعبة وعنيفة تحتاج لجهد خارق، بعد أن سادت ثقافة غريبة، تسمى الرشوة «اصطباحة»، أو «شاى».. إلخ، وأضحينا نوجد مبررات واهية لتخليص إجراءات عادية، حتى تحول الأمر إلى ما يشبه العرف، وترسخ لدى المرتشى شعور بأحقيته فى قبول الرشوة.
ومع تطورات الحياة وسرعة وتيرتها، تنوعت أشكال الفساد كما تباينت سبله، وتوحش الفاسدون وتجبروا، بعد أن تدثروا بثوب العفة التى لعنتهم بعد أن دنسوها بأفعالهم المشينة، حتى جاء وقت أصابت فيه الصدمة الناس من هول المفاجأة، بعد قراءة خبر القبض على أحدهم، كيف لهذا الشخص أن يكون فاسدا؟!
من هنا يمكن تخيل حجم منظومته، المتوغلة فى شرايين اللوائح المنظمة لآليات العمل، ولأننا منذ عقود طويلة أردنا حماية مقدراتنا ومع عدد سكان يقترب من عشر الحالى، تم اختراع البيروقراطية التى تجعل الحصول على أى مستند يستلزم كما من الطلبات والإجراءات، ينتهى بتكوين ملف كبير مرت أوراقه على العديد من الموظفين وكان الغرض المراجعة، اليوم الغرض أمسى الحصول على المكاسب «الإكراميات» لتكون الطريقة المثلى لقضاء المصالح أو لتمرير المخالفات إلا من رحم ربى. والسبب الرئيسى فى رأيى هو التعامل المباشر بين المواطن والمسئول!
لذلك الحل الأمثل لمواجهة الفساد يبدأ بتقليل التعامل بينهم، بما أننا أصبحنا فى عصر منفتح بدأت الحكومة تفعيل مواقعها الإلكترونية، ومن خلالها يمكن للمواطن معرفة قيمة مخالفات سيارته، بل ودفع قيمتها فى عدة أماكن خارج وحدة المرور، علما بأن أعداد المركبات تتزايد سنويا بشكل كبير، إلا أنه يمكن لكل مالك مركبة تسير بترخيص، أو أى شخص آخر أن يعرف قيمة مخالفاته، ولنا أن نتخيل كم المركبات وأيضا كم المخالفات لكل مركبة.
نأتى للنقطة المهمة، ما الذى يضير الحكومة لو نفذت نظاماً موازياً يتم فيه تسجيل كل بيانات المحليات «بعد أن تجاوز فسادهم الركب ووصل لقمة الجسد» الخاصة بالعقارات، بحيث يكون لكل عقار صفحة على الموقع الإلكترونى للحى التابع له يتم فيه توضيح، تاريخ الترخيص وعدد الأدوار، وحينما تستكمل إجراءات تركيب الكهرباء والمياه والصرف الصحى توضح صفحة العقار كل هذه البيانات، خاصة أنها ليست سرية ولا يضر نشرها بأحد، حتى أصحابها.
بهذه الكيفية سنعلم جميعا، أين تقع المخالفات الحالية، وأيضا سنحمى المشترين الجدد المخدوعين فى مظاهر براقة لعقار حديث، فيشترون وحدتهم السكنية الممولة بشقاء العمر، ثم يفاجأون بعدم حصول العقار على ترخيص من البداية، ويبدأون رحلة المعاناة مع أحد أمرين إما استرداد أموالهم إذا نجحوا، أو السكن تحت طائلة مخالفة القانون، وما يتبعها من سرقة التيار الكهربائى والسير فى طريق طويل مفروش بالعقبات والمشكلات التى لا ذنب لهم فيها.
إذا لم توجد للعقار المبتغى شراء وحدة سكنية فيه صفحة على موقع الحى، يعنى ذلك أنه غير مرخص، وهكذا يتمكن المواطنون من معرفة حقوقهم بطرق مشروعة، وينبغى على الحكومة، حتى نكون داعمين لها وحماية لمواطنيها، البدء فى تنفيذ هذا النظام وبشكل عاجل، فبهذه الكيفية سنتمكن من متابعة المخالفات وتطورها أولا بأول، مع الوصول للمخالفين، ومن ثم يتكون ظهير شعبى لمحاسبتهم حال استمرار مخالفتهم.
وأيضا يمكن للأمر أن يمتد للمقاهى والمحال بكل أنواعها، وما شابه، يتم وضع صفحة بكل بياناتها ومنها نوع الترخيص ومدته والغرض منه، ومن صدر بحقه قرار بالغلق، وإذا لم توجد صفحة على موقع الحى الإلكترونى، يعنى ذلك أن هذا المكان غير مرخص، وهكذا يعرف الناس بشكل منظم المخالفات وكذلك أصحابها، إضافة إلى المتقاعسين فى إزالتها، ليصبح مسئولو الأحياء تحت المراقبة المهنية والسليمة، من الأجهزة المعنية وكذلك من الرأى العام قبل أن ينفد صبره ونفقد دعمه.
هذا إن أردنا أن نحقق تقدما ملموسا فى القضاء على الفساد، يجب أن يقل التعامل المباشر بين السائل والمسئول، وأن تتصدر الشفافية العلاقة بين الطرفين بشكل واضح ومحدد، وأنا على ثقة تامة بأن الحكومة بما تملكه من إمكانات تكنولوجية جعلتها تنجح فى التخفيف على المواطن فيما يخص المرور، تستطيع أن تحقق فى هذا الجانب إنجازاً بما تحمله الكلمة من معنى إذا توافرت الإرادة، فهل تفعل؟