محمد عبد الحميد
لعل وعسي .. وصاية.. أم حماية؟
أزعم أنني من جيل تربي علي قيم. وعادات. وتقاليد. وأصول. وأعراف اجتماعية. كلها ظلت تتغذي علي جينات أخلاقية. بصماتها الوراثية كانت واضحة. ربما في تحليل مجتمع بأكمله. ولا أدري ان كانت عوامل مختلفة. سواء اجتمعت وقتها صدفة. أو عن عمد. هي التي ساهمت في ذلك.. أم أن الأرض كانت بكراً. بمعزل عن ملوثات العصر الحالي. لذا كان طبيعياً أن تنبت محصولاً سليماً. إلا قليلاً. والقليل هنا كانت تلده النظرية الأزلية "القاعدة والاستثناء".
ربما الحضور الطاغي للدولة في المشهد العام. من زاوية الراعي الرسمي لأخلاق المجتمع. كان عاملاً مؤثراً. إذ كانت تحكم قبضتها علي نوافذ تشكيل الوعي. والوجدان العام. من خلال تليفزيونها. وإذاعتها. وصحفها القومية. والتي كانت حينئذ تلعب دورها كحدود إعلامية. يقف عليها حرس مهمتهم منع أي غزو. أو تسلل ثقافي. من الخارج. وإن اختلفنا فيما بيننا الآن. هل كان ذلك من قبيل تعزيز الحماية. أم فرض الوصاية؟.
السينما التي كانت إما "تحت الرقابة". أو تشارك الدولة بقوة في صناعتها. هي الأخري لم تكن تغرد خارج السرب. إذ لم تتخط الشاشة الكبيرة. كما الصغيرة. الحدود المسموح بها. والدور المرسوم لها. مع هامش غير مؤثر من الحرية الفنية. لا يهدد الذوق العام. إذا ما وضعنا في الاعتبار كذلك أن جمهور البيوت كان الأكبر. وكانوا يتعرضون لأفلام دون غيرها. وبعد مرورها علي "مقص الرقيب".. الحال نفسه كان مع المسرح. الذي كانت تتابعه الدولة. وتشغل مساحة لا بأس بها علي خشبته. بأعمال منتقاة. وغير ربحية. ولها دورها الثقافي.
أذكر أن حالة قلق انتابت كثيرين. عندما رد صفوت الشريف- وزير إعلام مبارك- علي من أبدوا قلقهم إزاء دخول مصر عهد السماوات المفتوحة. من بوابة الـ "نايل سات". إذ صدم الجميع. وقتها. بأن "الريموت" في أيديهم.. ويبدو أن المجتمع آنذاك. كان قد اعتاد راضياً علي وصاية الدولة. وارتاح لدورها في حماية الأخلاق. بل وهضم. ورحب برقابتها علي الإعلام. من هذه الزاوية. ومن هنا كانت المفاجأة غير السارة. بالانتقال من زمن القناة الأولي. والثانية إلي زمن "الدش".
اعترف كذلك أنني- وعلي صغر سني وقتها- كنت أحد من أخافتهم السماوات المفتوحة. ولا زلت أحن إلي أيام زمان. حين كان كل الناس يشاهدون معاً مسلسل الساعة السابعة مساءً. علي القناة الأولي. ويلتفون معاً عقب صلاة الجمعة حول درس الشيخ الشعراوي. ويبهرهم معاً برنامج "عالم الحيوان".. كنا ننتظر سهرة السبت. من أجل فيلم "نادي السينما".. كانت خريطة البرامج تضعها الدولة بعاية.. كان التليفزيون يربي. والإذاعة تربي. والبيوت تربي. والمدارس تربي.. كانت الحدود الثقافية للدولة. من السهل السيطرة عليها. وكانت الرسالة الإعلامية التي تخدم توجهات ومصالح الدولة من السهول وصولها للجميع. في نفس الوقت. بنفس المعني. وتحقيق الهدف.
كنت طفلاً. أو ربما علي العتبة الأولي للشباب. حين طرح للمرة الأولي مفهوم "العولمة". وكيف أن العالم سيصبح "قرية صغيرة".. لم يسعفني خيالي- وربما لم أكن وحدي- لأفهم المقصود. وكيف للعالم بقاراته. وثقافاته. وحكاياته أن يعيش في قرية.. ثورة الاتصالات أدخلتنا "الشبكة العنكبوتية".. لفت حولنا خيوطها.. أسقطت حدودنا.. سقطت معها الحماية. والوصاية.