جمال عبد الجواد
الأزمة الكورية.. صراعات القرن العشرين عاشت طويلا
انشغل العالم طوال الأسابيع الماضية بمشهد التراشق بالتهديدات والتجارب الصاروخية والنووية بين كوريا الشمالية من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى. المحير فى أمر الصراع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية هو الصعوبة الشديدة فى تشخيص طبيعة هذا الصراع. فالنظام فى كوريا الشمالية يرفع رايات التحرر الوطنى من الاستعمار, والشيوعية ومقاومة الإمبريالية، حتى أن المتتبع للخطاب الكورى الشمالى يشعر كما لو أن العالم مازال يعيش أجواء الكفاح من أجل التحرر الوطنى الذى خاضته شعوب المستعمرات ضد الاستعمار، الذى كان غربيا فى معظم الأحيان، ويابانيا فى شرق آسيا. أيضا فإن الصراع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يوحى بأجواء الصراع الأيديولوجى بين الشيوعية والرأسمالية، كما لو كانت الحرب الباردة بين المعسكرين مازالت قائمة. الصراع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بهذا المعنى هو امتداد شاذ لأهم صراعات القرن العشرين، ومصدر شذوذ هذا الصراع هو تلك الفجوة الهائلة التى تفصل بين الظروف المحيطة بالصراع من ناحية، والخطاب القادم من الماضى المستخدم لشرح الصراع وتبريره، خاصة على الجانب الكورى الشمالي، من ناحية أخرى.
الصراع بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة لا يمكن اختزاله فى صورة صراع يجرى بين قوة تعيش فى الماضى كوريا الشمالية، وقوة متطورة وعصرية الولايات المتحدة. فواشنطن تدير هذا الصراع بطريقة تبدو فيها ممزقة بين سياسات القرن العشرين القديمة التى خبرتها جيدا، بل والتى أسهمت فى صنعها وتشكيلها، وبين مقتضيات المصالح الاقتصادية والأمنية فى ظل النظام الدولى الراهن، وهو نظام دولى يقوم على العولمة، تعتمد فيه الدول على بعضها البعض بدرجة كبيرة غير مسبوقة، ولا تبدو فيه القوة العسكرية أداة مناسبة لتحقيق المصالح القومية.
المؤكد أن الولايات المتحدة ليس لها شهية للدخول فى صراع مع كوريا الشمالية، والقادة الأمريكيون يبدون على درجة عالية من «الزهق»، وهم يديرون صراعا يبدو -إلى درجة كبيرة- معدوم المعنى والجدوى، بينما يحرصون على تجنب تحول الصراع مع بيونج يانج من مرحلة تبادل التهديدات إلى مرحلة تبادل القصف بالصواريخ. ومع هذا فإن الولايات المتحدة تدير الصراع مع كوريا الشمالية باستخدام نفس كتاب إدارة الأزمات الذى تم تأليفه فى القرن العشرين. ووفقا لهذا الكتاب، فإن عليك إظهار أقصى قدر من الحزم والتصميم فى وجه عدو يحاول تحقيق مكاسب على حسابك، أو يحاول اختبار مدى جدية التزامك تجاه قضايا وحلفاء معينين.
التصعيد مقابل التصعيد، والتهدئة مقابل التهدئة، هى أحد دروس كتاب إدارة الأزمات القادم من دبلوماسية توازن القوى القديمة، والتى تم تأكيدها فى عالم الحرب الباردة فى القرن العشرين. لقد التزمت الولايات المتحدة بهذه المبادئ وهى تدير الصراع مع كوريا الشمالية. فكل تهديد باللفظ أو باختبار الأسلحة من جانب كوريا الشمالية قابلته الولايات المتحدة بتصعيد لفظى أو بنشر المزيد من القوات بالقرب من شبه الجزيرة الكورية، وكل بادرة تهدئة أظهرها الكوريون قابلها الأمريكيون بمثلها.
غير أن تطبيق كتاب إدارة الأزمات القادم من الماضى فى ظروف جديدة تماما يجعل الأمر مثيرا للسخرية إلى حد كبير. فكوريا الشمالية ليست ندا للولايات المتحدة بأى معنى من المعاني، ومع هذا فإن هذه القوة من الدرجة الثانية تبدو قادرة على تحدى القوة العظمى بطريقة لم تخطر ببال مؤلفى كتاب إدارة الأزمات القديم، حتى أن القوة العظمى تجد نفسها مضطرة لتطبيق قواعد تمت صياغتها لإدارة العلاقات الإستراتيجية بين قوى متكافئة، فى موقف صراعى ضد قوة إقليمية من الدرجة الثانية. مصدر السخرية فى هذا المشهد هو تلك الجدية - المصطنعة فى أغلب الأحيان - التى تتعامل بها الأطراف مع الأزمة، فلا أظن أن الأمريكيين ولا الكوريين أخذوا تهديدات الطرف الآخر على محمل الجد، رغم أنه كان عليهم طوال الوقت التظاهر بالجدية الشديدة وهم يتدبرون خطوتهم التالية فى هذا الصراع.
إجبار الولايات المتحدة على إظهار أقصى علامات الجدية، فى أثناء إدارتها الصراع مع كوريا الشمالية، هو المغزى والمكسب الأهم الذى فازت به كوريا الشمالية فى هذا الصراع. فدخول قوة من الدرجة الثانية فى صراع مع القوة العظمى يوحى بمعانى البطولة والشجاعة، وفى هذا تعزيز لمكانة قوة الدرجة الثانية وتعزيز من مكانة قادتها. إجبار القوة العظمى على التصرف بجدية وهى تدير صراعا مع قوة من الدرجة الثانية، هو سبب إضافى لتعزيز مصداقية القوة الأصغر. أما وقد خرجت قوة الدرجة الثانية سالمة من هذا الصراع، بينما حرمت القوة العظمى من فرصة استخدام قدراتها العسكرية المتفوقة، فالأمر يمكن تصويره كما لو كان انتصارا لقوة الدرجة الثانية الصغيرة التى أجبرت القوة العظمى على التراجع.
التهديد بالحرب ليس بديلا عن الحرب فى كتاب إدارة الأزمات القديم. فقد يكون التهديد بالحرب كافيا لردع الخصم وإجباره على التراجع، وعندها يتم تجنب القتال. غير أن الخصم قد لا يرتدع، وعندها فإن النشوب الفعلى للحرب يكون هو الخطوة الى تلى التهديد بها. لكن عندما تكون الحرب خيارا مستحيلا، كما هو الحال فى العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، فإن التهديد بالحرب يصبح كألعاب الأطفال لا يخيف أحدا، ولكنه يتحول إلى نوع من الإجراءات الروتينية التى تعود صناع القرار على القيام بها، الأمر الذى يضيف للموقف سببا جديدا للسخرية. فنشوب الحرب بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة يحتاج لتوافر درجة من الجنون تزيد كثيرا عما هو متوافر بالفعل فى القيادات الراهنة فى كلا البلدين، بل وتزيد أيضا على درجة الجنون التى تحاول القيادة فى كوريا الشمالية الإيحاء بها، كطريقة تستخدمها لإجبار الخصوم على أخذها بجدية.
لكن ماذا لو توافر فى أحد اللاعبين القدر الكافى من الجنون لإشعال الحرب؟ أو ماذا لو وجد أحد الأطراف نفسه مضطرا للتصعيد فيما وراء قدرة الطرف الآخر على الاستمرار فى لعبة التهديدات والتهديدات المضادة؟ إذا حدث شيء من هذا فالأمر سيكون كارثة محققة، وسيكون قمة فى السخرية أن يتحول صراع معدوم المحتوى إلى حرب حقيقية.