الأهرام
محمد ابو الفضل
فرصة حماس الثمينة
الزيارة التى يقوم بها وفد كبير من حركة حماس للقاهرة، ليست كغيرها من الزيارات السابقة، التى كانت فى معظمها ترمى إلى تهدئة الأجواء وتقديم تفسيرات حول مواقف مريبة لعناصرها، أو التفاهم بشأن اتخاذ إجراءات صارمة لعدم تكرار المساس بالأمن القومى المصري. ووجه الاختلاف الرئيسى يكمن فى أربعة عوامل.

الأول ـ يتعلق بتغيرات ظاهرة فى خطاب حماس، بدت تجلياته فى إدخال تعديلات على الوثيقة الأساسية للحركة أخيرا، بما يتماشي، تكتيكيا على الأقل، مع المتغيرات الراهنة فى المشهد الدولي، ويوحى أن حماس ليست كتلة إسلامية صماء، بل تستطيع التأقلم مع المستجدات، ولديها حصيلة زاخرة من المواقف التى تنحنى فيها للعواصف والرياح.

الثاني ـ يخص النظرة المتدنية من قبل قوى كثيرة لتيار الإسلام السياسي، وتعد حماس تاريخيا أحد روافده الإخوانية، لذلك اعتمدت خطابا بدا لكثيرين ينطوى على تحول لافت وينسجم مع التغيرات التى وضعت التيار الإسلامى فى بؤرة واحدة، لا فرق فيها بين متشددين ومعتدلين، ومهما تبرأت حركة حماس من أفعال التنظيمات الإرهابية المتشعبة سوف تصيبها خدوش من وراء تصرفاتهم وتصوراتهم، لذلك لابد أن تقدم ما يثبت بشكل ملموس حسن نياتهم، وفى مقدمتها التعاون لاجتثاث العناصر المتطرفة من قطاع غزة، وهو ما تتلكأ فى تنفيذه حرفيا.

الثالث ـ يقين الحركة أن الأبواب والنوافذ التى كانت تلجأ للاحتماء بها وتوفر لها ملاذا جيدا للمناورة بدأت تتراجع بقوة، فإيران لم تصبح الجهة الآمنة بعد صدمتها فى موقف حماس من سوريا، وتركيا تفتقر للجرأة التى تمكنها من مواجهة دول عديدة فى العالم دفاعا عن الحركة، وقطر الجريحة تحتاج إلى من ينقذها من ورطتها المعقدة.

وعموما أدى تقليص مساحة المشاغبات واللعب على التناقضات العربية إلى وضع حماس فى مواجهة الحقيقة عارية، وهى ضرورة أن تتعلم من الدروس، ولا تتمادى فى عداء مصر التى تتماهى رؤيتها العربية- القومية للقضية الفلسطينية مع تقديراتها الوطنية.

الرابع ـ تركت مصر بعض المنافذ مفتوحة، والاستعداد للتعامل مع الحركة التى ارتكبت حماقات عديدة، أملا فى إعادة تأهيلها بصورة تتوافق مع متطلبات الأمن القومي، الأمر الذى يفسر أحد أسرار التعاطف الكبير مع ما يجرى فى قطاع غزة، وتقديم مساعدات تخفف عنه آلام الحصار الذى فرضته إسرائيل سنوات طويلة، وتقريب المسافات بين الحركة والقوى الفلسطينية، رغبة فى الوصول إلى مصالحة وطنية.

الطريقة التى تتعامل بها الحركة لم تجعلها محل ثقة كافية، فهى تجاوبت مع المطالب الخاصة بأمن الحدود مع مصر، لكنها لم تقدم على الخطوات التى تبعث على الاطمئنان الكامل، وأعلنت عن مواجهة متطرفين فى غزة، ولم تخض المواجهة حتى نهايتها، ورضخت لحسابات حركية فرضت عليها الهروب من المعركة بحيل ودهاليز ليست مقنعة، وهو ما جعل الحركة تجهز وفدا رفيعا لزيارة القاهرة حاليا، لمحاولة إزالة التباسات تخيم عليها، قبل أن ينفد صبر أهم دولة معنية تاريخيا بالقضية الفلسطينية وهى مصر.

من المؤكد أن حسن النيات له أدلة وعلامات وبراهين، غالبيتها خفي، لأن الكثير من قيادات الحركة لم ينس يوما انتماءهم لجماعة الإخوان، وحرصوا دوما على الدفاع عنها، بل ومناصرتها فى محكات رئيسية وفرعية حتى الآن.

وبعضها ظاهر، حيث أوحت حماس أنها جادة عندما قرر رئيس مكتبها السياسى عقد أول اجتماع مباشر مع هيئة المكتب بالقاهرة أخيرا، والتخلى عن اجتماعات الفيديو كونفرس التى كانت تجرى بين أعضاء المكتب من الدوحة وغزة، وهو ما يشير إلى أن الحركة ابتعدت خطوة عن قطر التى درجت على استضافة اللقاءات المهمة على أراضيها، وأرادت توصيل رسالة مفادها أن الحركة متفهمة لدواعى ومبررات المقاطعة المفروضة على الدوحة.

كما أن تشكيلة الوفد الذى يرأسه هنية، وتضم قيادات سياسية وعسكرية، يهدف إلى محاولة بث إشارة تطمين تقلل من التناقضات المعروفة فى خطاب الحركة، الذى يعزف دائما على التفرقة بين المستويين، السياسى والعسكري، وهو ما يربك حسابات بعض القوى فى التعامل معها، ففى الوقت الذى يمكن أن يوافق المستوى السياسى على شيء قد يخرج المستوى الثانى برفضه.

وهى لعبة أدمنتها حماس فى تعاملها مع قضايا، ربما تكون مقبولة فى تقديراتها بشأن إسرائيل، لكنها مرفوضة فى نظرتها للقضايا المشتركة مع مصر، لذلك جاء وفد الحركة خليطا من المستويين لتخفيف حدة الهواجس الناجمة عن التداخل المتعمد بينهما.

استعداد الوفد الذى يزور القاهرة لمناقشة ملفات حيوية، نقطة مهمة تقلل من المخاوف السابقة، فاستعداد الحركة لاتخاذ حزمة إجراءات جديدة لضبط الأمن على الحدود، من القضايا التى يمكن أن تجعل حماس محل ثقة نسبية، إذا أوفت بدقة بما هو مطلوب من جانب مصر، دون تحريف أو تزييف أو تلكؤ أو حتى حذر، لأن هذه موضوعات سبقت مناقشتها ولم توف الحركة بالتزاماتها، بل تهربت منها بحيل مختلفة.

الإعلان عن استعدادها للدخول فى مصالحة فلسطينية وحل اللجنة التى تدير غزة، علامة جيدة، إذا التزمت بها الحركة فعليا، وتخلت عن السيطرة على القطاع، كما أن التوافق حول الخطوات اللازمة لترتيب الأوضاع الفلسطينية، خطوة عاجلة قبل حدوث المزيد من التدهور فى الواقع الفلسطيني، وقيام الحركة بالقفز على السلطة فى رام الله مع غزة، بحكم أنها الأكثر تنظيما وتماسكا بين القوى الفلسطينية المختلفة.

الواقع أن حماس أمام فرصة ثمينة لتأكيد تغيرها لمصر والعالم، وإذا أرادت أن تكون رقما صحيحا (وهذا مشكوك فيه) على الساحة الفلسطينية، عليها أن تتكيف مع المعطيات التى تفرض عليها عدم التهاون فى الفرصة الممنوحة لها، وفرضتها مقتضيات ضاغطة، قد لا تتكرر كثيرا، وتثبت قدرتها على تقديم الخطاب السياسى على الأيديولوجي، لأن تشبثها بالثانى وتجاهل التحديات التى تواجهها سوف تفضى إلى مواجهة مشكلات تكبدها جزءا كبيرا مما بنته طوال السنوات الماضية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف