الدستور
جلال حمام
مواجهة النتائج لا تقضى على الأسباب
اعتاد الرجل، ذو اللحية الكثة والجلباب الأبيض، أن يجلس أمام دكانه، المواجه للشارع الذى شهد اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن ومجموعة من العناصر الإرهابية، بأرض اللواء، فجر الأحد الماضى، انتهت بمقتل اثنين منهم، إلى جانب ثمانية آخرين، فى شقة أخرى، قريبة من الأولى.. وقد أمسك مسبحته، يستقبل زبائنه بابتسامة ناعمة، إذا ألقى الداخل إليه بالسلام، فإن لم يفعل، تجهم وأنجز لزبونه ما يقتضيه البيع والشراء، دون أن ينبس ببنت شفة، إلا قيمة الحساب المطلوب، ثمنًا لبضاعته.. استقبلنى الرجل بترحاب، ذات مرة طلبت فيها أن يبيعنى بعض بضاعته، ترحاب أدرك سره الكامن فى إلقائى السلام عليه، وبعض لحية شيباء تعلو وجههى، شجعته، مرة بعد أخرى، أن يسألنى الجلوس إليه، للحديث عن سر عدم وجودى إلى جانب أصدقائه فى المسجد المواجه لدكانه.
وامتد الحديث عن أحوال البلاد، وما تشهده من غلاء، اعتبره هو، قلة بركة فى دولة قبضتها أمنية.. وهو ما فجر أمامى المفاجأة، بعد أن أبديت له تفهمى وجود مؤامرات خارجية، وخيانات داخلية، تستهدف إسقاط الدولة المصرية، وهو ما يتطلب مؤازرة الدولة، والوقوف إلى جانبها، والصبر على برنامجها الاقتصادى، باب الغد الذى ينتظره الجميع، ويتحمل آثاره فقراء مصر، قبل غيرهم، لأنه طوق النجاة مما وصلت إليه البلاد، خلال ستين سنة عجافا، أكلت الأخضر واليابس، وتركت البلاد خرابًا يبابًا.. ورأى هو أنه لا تعاون مع النظام الحالى، وأن العين بالعين والسن بالسن، والبادى أظلم، ولابد من مواجهة هذا النظام بالعنف اللازم لردعه.. وراح يستشهد من القرآن والأحاديث بما لا يتطابق مع واقع الحال، وقد لاحظت أنه لا يحفظ أغلب هذه الشواهد، لكنها فى النهاية، العقيدة التى استقرت بداخله، كما نقلها إليه رفقاء له، فى المسجد الكائن فى منطقة، خرجت منذ بداية تكوينها، عشوائية الفكر، كما هى عشوائية البناء، أتاحت للسلفيين والإخوان، منذ ثمانينيات القرن الماضى، أن يحتلوا زواياها، ويعتلوا منابرها، يدعون الناس إلى أفكارهم، دون حسيب أو رقيب، ويقيمون نوبات الاعتكاف لأيام طوال داخل المساجد، يفعلون خلالها ما يفعلون، وينشرون، على مهل، بعض ما يريدون بين شباب المنطقة.. فألقيت عليه تحيتى وغادرت دكانه دون رجعة، ربما لم يأبه بها.. فإن كنت ممن لم يأت على هواه، وانساق لرؤاه، فربما جاء غيرى، صيدًا ثمينًا، ممن تضمهم منطقة تعج بالبشر، من كل صنف ولون، اسمها.. أرض اللواء.
فى ذلك الفجر المشهود، استيقظ السكان على طلقات رصاص، تنهمر من شبابيك إحدى العمارات المتاخمة لدكان هذا الرجل.. حاول الكثير استطلاع الأمر، لكن رجال الأمن الموجودين بالشارع طلبوا من الجميع الدخول من الشرفات، خشية عليهم، من رصاصة طائشة، يحاولون هم تفادى أخطارها، مع ما ألقاه عليهم الإرهابيون من قنابل يدوية، ليستمر الكر والفر، قرابة الثمانى ساعات، حتى لا يُصاب أحد من سكان المنطقة بسوء، ثم هدأ صريخ الطلقات، ولقى اثنان من عناصر حركة «حسم» الإخوانية حتفهما، بعد أن جاءوا إلى هذه المنطقة المزدحمة، يتخفون فيها عن أعين الأمن، الذى كان يرصد تحركاتهم، وتلقيهم تدريبات فى سيناء، لاستهداف الأكمنة والمنشآت الشرطية، خلال الأيام المقبلة، بعمليات إرهابية، شهدنا مثلها على مدى الشهور الأخيرة، راح ضحيتها أبناء لنا، شهداء لواجب الحفاظ على الوطن وحماية مواطنيه، آخرها الثمانية عشر شهيدا، الذين صعدوا إلى السماء يوم الإثنين الماضى.
وأرض اللواء هنا، ليست بدعة فيما جرى على أرضها، وهى ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة.. فمثل هذه المنطقة، كغيرها، مما خرج للوجود عشوائيا، فى غياب تخطيط الدولة لأماكن السُكنى، التى جارت على رقعة زراعية خصبة، محرومة من الخدمات الإنسانية الأساسية التى لم تصلها إلا مؤخرا، تضم فى تركيبتها الديموجرافية، أشتاتًا من البشر، جاءوا من أنحاء الجمهورية، سعيًا وراء الوظيفة، أو بحثًا عن عمل، أو تحايلًا على لقمة العيش، علها تأتى بشكل كريم، ولكنها لم تأت كثيرًا على هذه الشاكلة، ومنهم من جاء بأحلام الثراء فى دروب العاصمة الواسعة.. وهنا تبدأ مرحلة التيه، لبعض الذين لم يتعلموا، أو ينالوا قسطًا من الثقافة، ولم يتحصنوا بأخلاق دينهم وعادات مجتمعهم.. هؤلاء من حولتهم الجماعات الحاضنة للفكر المتطرف، إلى جمرات تكوى جسد الأمة.. تلعب فى عقول فارغة، تدس فيها ما شاء لها من أفكار تعادى المجتمع، وتناهض الدولة، وتقف عدوًا لكل مؤسسة تمثل عمود الحماية لمصر، وعلى رأسها الجيش والشرطة، الشيطان الرجيم، فى نظرهم!.
غابت الدولة طويلًا عن أرض اللواء وأشباهها، فاستقر فيها ما استقر من عشوائيات البناء والأفكار والأخلاق، والسلوك الذى أفضى إلى موبقات اجتماعية، ساعد على انتشارها ذلك الوجود الطاغى لأقليات من أصحاب البشرة السمراء، القادمين من السودان والصومال وإريتريا وما حولها، الذين وجدوا فى هذه المنطقة مبتغاهم، من الذوبان وسط كتلة سكنية هائلة، لا يعرف فيها أحدٌ جاره، ولا يسأل أحد غيره، من أين جاء ولا ماذا يفعل؟.. فكانت المخدرات والبغاء واللصوصية، والنصب والاحتيال، والطامة الكبرى الإرهاب الذى وجد حاضنته الدافئة العفية، فى أرض تنجب له فى كل يوم، مزيدًا ممن كانوا صيدًا سهلًا لهؤلاء الذين اتخذوا من الدين ستارًا لمحاربة الدولة وتهديد استقرارها، دون أن نراقب، بشكل دائم، مثل هذه التجمعات، بما يُؤمننا شر بعض عناصرها، ودون أن نفعل عقوبة كل من وفر سكنًا لغريب فى منزله، دون أن يخبر الجهات المختصة عن وجوده وهويته.
ولعل المراقبين لبعض من تضمهم السجون الآن، قد علموا، ممن شملتهم الأحكام بالسجن، فى قضايا عنف وإرهاب، أو ممن هم على ذمة التحقيقات فى قضايا من هذا النوع، أن بعضًا من هؤلاء لا يرى فيما ارتكبه خطأً، لأن الذين دفعوهم إلى العنف، صوروا لهم الحياة نعيما فى ظل خلافتهم المزعومة، كما صوروا لهم أن حور الجنة بانتظارهم، ليس بينك وبينهم إلا أن تقتل من يشير إليه قادتك، من زعماء الإفك والإرهاب، واستيقظ البعض الآخر على كارثة، لم يدرك أن ذلك مآلها، لأن زبانية الشيطان أوعزوا إليه أن ما يفعلون، حتى ولو بدا عنيفا، مما يحبه الله ورسوله.. تعس القائل والسامع، ومن سعى سعيهما.
خلاصة الأمر أننا مازلنا نراوح مكاننا.. نتعامل مع النتائج وليست الأسباب، يسقط من أبنائنا شهداء، حاولوا الدفاع عن الوطن وحفظ المجتمع، دون أن تتكاتف الأجهزة الأخرى فى الدولة ومؤسساتها، للتصدى للمفاهيم الخاطئة عند شبابنا، وتبصيرهم بأنهم، فقط، وقود معركة ليسوا هم أصحابها، ولا مغتنمى نتائجها، بإجراءات حقيقية على الأرض، تؤتى نتائجها.. ومازلنا نصدح بالنداء.. أفيقوا يرحمكم الله.. توجهوا للشباب، بخطاب دينى وثقافى وسياسى، يوضح لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليبزغ فجر الخير على مصر.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف