د/ شوقى علام
من دروس الحج (2) مبدأ المساواة
مبدأ المساواة من المبادئ الضرورية اللازمة من أجل عدم التمييز بين فرد وآخر لأى اعتبار حتى يحصل استقرار للعدل وسيادة للحق؛ فيُطْمَسُ أى أثر من ظلم أو هضم حق، وهو شعار رائق لكن لايزل الواقع يثبت أن المبادئ والشعارات لا تكفى وحدها، بل لا بد أن يصاحبها توضيح المعانى وشرح الأساليب والوسائل.
والإسلام سبَّاق فى هذا الشأن؛ فنجد مبدأ المساواة أصلا من أصول هذا الدين الحنيف، معتبرا فى مقاصده وحِكَمه، مطلوبا فيه بحكم التعبد لله تعالى، واضحة وسائله وصوره، مراعى فيه أمرين مهمين هما الثواب والعقاب، سواء فى الدنيا والآخرة من أجل تحلى الإنسان باعتباره إنسانًا بالسمو والرقى فيكون نافعًا لنفسه ومفيدًا لعالمه.
ورغم شيوع هذه المعانى فى أركان الإسلام وأحكامه وآدابه فإن شعيرة الحج تُعَدُّ أعظم منسك تتجلى فيه معانى مبدأ المساواة بأسمى صورها؛ فالحج موسم كبير يهوى إليه المسلمون من كل مكان فى المعمورة فيتحلون فى أثناء أداء مناسكه بمبدأ المساواة مخبرًا ومظهرًا، حيث تُصهر فيه كل مظاهر الفُرْقَة والتمييز بينهم؛ فلا فرق هنالك بين ذكر أو أنثى، ولا بين أعجمى أو عربي، ولا بين طويل أو قصير، ولا صحيح أو مريض، ولا بين رئيس أو مرؤوس، ولا بين غنى أو فقير، ولا بين أبيض أو أسود؛ فكلهم جميعًا من أصل واحد، أبوهم آدم عليه السلام.
كما أنهم مخاطبون بأداء هذه الفريضة على درجة واحدة، ومجتمعون لغاية واحدة، يُحْرِمون فى مواقيت زمانية ومكانية واحدة، ويُرْتَدُون لباسا - غير مخيط ولا محيط - مواصفاته واحدة، ويُلبُّون بشعارٍ واحد، ويُؤدون شعائرَ واحدة : ربهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، فهم أمةٌ واحدة كما يريد الله تعالى منهم، لا أمم شتى كما يريد لهم أعداؤهم.
إن اجتماع هذه السمات الراقية فى الحج ومناسكه يبرز لنا الحكمة البالغة من وراء تخصيص النبى الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف الجليل ببيان أحكام الإسلام وإصدار المواثيق العامة على رؤوس الأشهاد التى تؤسس للحقوق والواجبات وتبين مقاصد التشريع وترسم سمات الصراط المستقيم بصيغة جامعة وقاطعة لا لبس فيها. فقد ورد فى هذا الموقف قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على عجمي، ولا لعجمى على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلَّغت؟ قالوا: بلغ رسول الله» (مسند الإمام أحمد/ 23489).
وفى ذلك هدم مباشر لكل معايير التمييز والتفاضل، مع وضع معيار حكيم إذا استدعى الأمر ذلك بحيث لا يخل بهذا المبدأ فى ذاته، وهو يتجلى فى التحقق بالتقوى، التى تحمل صاحبها على أداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد على درجة واحدة فى الطلب والأداء دون الإخلال بأيهما على حساب الآخر على قدر الطاقة البشرية.
كما أنه صلى الله عليه وسلم فى هذا الموقف الجامع أطلق بيانًا جامعًا لحقوق المرأة، فضلا عن تحريض الرجال ووصيتهم بحسن العشرة وطيب المعاملة؛ مع تأكيد أن هذه الحقوق والواجبات قائمة على التقابل والتزام كلٍّ بما عليه للآخر، وهذا يحمل فى طياته مظهرا صريحا من مظاهر مبدأ المساواة بين المرأة الرجل، والذى يقرر مساواتهما لا تساويهما فى أصل التكليف وأصل الحقوق والواجبات، مع ملاحظة وظائف كلٍّ وخصائصه.
وبذلك تتجلى معانى مبدأ المساواة وصوره الواقعية فى مناسك الحج وأعماله، والتى تؤكد أهمية شعيرة الحج فى تعميق الأخوة والمساواة بين الإنسانية مع التنفير من تقسيم الناس إلى طبقات يعلو بعضها فوق بعض، مع البعد عن بناء حقوق الإنسان ومبدأ المساواة على تغليب المنفعة الخاصة على العامة أو العكس؛ بل إنها لتحرض الناس على تحقيق مبدأ المساواة بطريقة متوازنة حكيمة.