المصريون
أيمن كامل
العلمانية العربية (2)
تناولنا في المقال السابق تعريفات تطبيقية للعلمانية بدأنا بالتعريف الابتدائي ( فصل الدين عن الدولة ) ثم التعريف الوسيط ( تحييد الدين ) ثم عرجنا على التعريف المتشدد والذي اعتنقه- للأسف- كثير من مثقفى العرب وهو ( دولة مدنية ضد الدين )..
واليوم سنتجول في التاريخ للبحث عن أول تجربة علمانية في بلاد المسلمين وسأكون صادقاً معكم إذ أنني كنت انتوي البدء من تاريخ الحملة الفرنسية في مصر أو تجربة مصطفى كمال اتاتورك والعلمنة التركية فيما بعد الخلافة العثمانية ولكني عندما غصت أكثر وجدت تجربة سبقت تجربة العلمانية الفرنسية ذاتها وهي قيام دولة علمانية في بلاد المسلمين قبل قرون من صك مصطلح العلمانية في أوروبا وهي تجربة غريبة في بدايتها ونهايتها ..
بدأت القصة بظهور "جنكيزخان " في القرن الثاني عشر الميلادي /السابع هجري وتوسع مملكته من الصين وبلاد فارس وتابع ابناؤه واحفاده التوسع حتى اصطدموا بالمصريين في عين جالوت وإن كانوا في طريقهم أزالوا دولة الخلافة العباسية بعد خمس قرون وأبادوا خلقاً كثيراً وثقافات متعددة .
وقد وضع جنكيزخان كتاب سماه " الياسق " وهو يعتبر دستور لدولته جمع فيه الأحكام التي وافقت هواه من الديانات الشرقية والابراهيمية منها على سبيل المثال قتل الزاني وقتل السارق وتحريم ذبح الحيوان بل يجب أن تدخل يدك في جوفه وأخذ قلبه وكانت هذة طريقتهم في الذبح وظل هذا الكتاب هو دستور أمة المغول والتتار لفترة طويلة ثم حدثت المعجزة ..
وأنا اسميها معجزة لأنها خاصية من خصائص هذا الدين اذ تحول أحد أحفاد جنكيزخان للاسلام في منتصف القرن السابع الهجري ليبدأ فصل جديد للتتار وللمسلمين ..
إذ دخل المغول والتتار في الاسلام أفواجاً ولكن دولة المغول ظلت تحكم " الياسق " في كل شئون الحياة وبهذا أعتبرها – عن نفسي- أول دولة علمانية في بلاد المسلمين إذ كان " الياسق " دستور بشري وضعي لأمة المغول يتحاكم إليه كل طوائف المغول مهما كانت ديانتهم وبرغم دخولهم في الاسلام .
ولكن القصة لم تنتهي فقد غزا المغول "الذين دخلوا الاسلام " بلادَ الشام في محاولة لتوسيع دولتهم فتصادموا مع دولة المماليك التي كانت تحكم مصر والشام في معركة " شقحب " التي انتهت بانتصار المماليك ..
إلا أن المعركة الفقهية التي أحدثتها فتوى ابن تيمية – رحمه الله - في قتال التتار(الذين أعلنوا اسلامهم وغزوا بلاد الشام ) ومحاولة تأويلها وسحبها على الواقع الحالي لم تنتهي الى اليوم ومن النادر أن تجد جماعة اسلامية لا تمثل هذة الفتوى جزءاً من تاريخها وأدبياتها .
وبرغم وجود معارك كثيرة بين طوائف المسلمين بسبب السلطة أو التدافع أو البغي إلا أن معظم التيارات الاسلامية تعتبرها تقاتل من أجل السلطة أو توحيد الكلمة أوفتنة أو غير ذلك من التأويلات المحتملة ..
ونحن نستقرأ التاريخ لاستخلاص العبر ومنع تكرار مآسينا وأترك للقارئ الباب مفتوحاً ليطل منه ليعرف لماذا يقف الاسلاميون كثيراً عند معركة " قشحب " ولماذا يعادي العلمانيون العرب ابن تيمية عداءاً جذرياً .
ورغم قناعتي أن معركة " قشحب " كان سببها محاولة التتار التوسع على حساب دولة المماليك ولم تكن معركة " قشحب " عكسية من المماليك ضد التتار المسلمين بسبب تحكيمهم " للياسق " وهي تشبه إلى حد بعيد معركة " مرج دابق" حيث وسع "سليم الأول" دولة الخلافة العثمانية على حساب دولة المماليك وضم مصر والشام .
وأنا أدعو المتخصصين والفقهاء لتوضيح هذة القضية لأنها النقطة المفصلية التي انبثقت منها كل الجماعات المسلحة مع اختلاف المسميات ..
ولقد ترددت كثيراً قبل الحديث عن التجربة الأولى للعلمانية – كما أظنها – وأعرف أن المنصفين قليلون جداً وأن هذا الملف شائك جداً يبدأ بالتفكير وربما انتهي بالتكفير أو التفجير ..
واتمنى من القارئ الواعي أن يبحث بنفسه عن الظروف التاريخية لكل فتوى قبل سحبها على الحاضر.. نعم تجرأ وفتش بنفسك فحتى الأبواب التي تراها كبيرة جداً مفاتيحها صغيرة ..
ولو قدر الله أن نستكمل ما بدأناه سنتكلم في المقال القادم - بإذن الله- عن التجربة الثانية للعلمانية في بلاد المسلمين ..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف