طه عبد العليم
الخطاب الغربى وازدواجية المعايير ومسلمو بورما
يعانى الخطاب الغربى حول حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية مشكلات بنيوية عديدة، يبرز من بينها على وجه الخصوص مشكلة «ازدواجية المعايير» فى الممارسة والتطبيق، والانتقائية والانحياز، يحاول الخطاب الغربى السياسى والحقوقى إبعاد شبهة الازدواجية والانتقائية، وتبريرها ولكن يصطدم هذا المسعى بوقائع وأزمات تعزز من وجود هذه الازدواجية والانتقائية ولا تنفى وجودها أو تقلص منه.
وبداية فإن ازدواجية المعايير فى الممارسة والتطبيق تشير إلى مبادئ تتضمن تقويما وأحكاما مختلفة لمجموعة من المفاهيم فى السياق ذاته أى سياق انتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية أى تفتقد هذه المبادئ الوحدة فى التطبيق رغم تماثل الظواهر والوقائع والانتهاكات، ويفضى ذلك إلى نوع من التحيز والانحياز لتشخيص موقف معين فى السياق المعنى واستبعاد تشخيص آخر رغم تماثل طبيعة الوقائع والظواهر.
وهذه النظرة تخل بأحد أهم المبادئ فى القانون الحديث، لأنها تخل بمبدأ العدالة والحياد إزاء تطبيقها، هذا المبدأ الذى يقوم على أساس افتراض أن ذات المعايير ينبغى أن تطبق فى جميع الأحوال المتماثلة، وبالنسبة لكل المجموعات من البشر بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو المذهب السياسى، ومن ثم فإن ازدواجية المعايير تعنى التحيز للمصلحة والمصالح واعتبارات الأمن القومى للدول، وبالتالى تنحية المبادئ التى تطمح إلى أن تكون كونية، ومحاولة استنساخ صيغة مختلفة منها فى التطبيق تلائم المصالح والمنافع بأكثر مما تتطابق مع المبادئ.
كما أنه من ناحية أخرى فإن ازدواجية المعايير وعدم اتساق المبادئ مع السياسات والأفعال، ليس بالضرورة صفة تكوينية مرتبطة بالغرب، بل إن الخطاب العربى ذاته لا يخلو من هذه الشبهة من حيث عدم تطابق الأقوال مع الأفعال والشعارات مع السياسات، والتركيز على الخطاب الغربى من ثم يأتى نظرا لقدرة الغرب وتأثيره فى مجريات الشئون الدولية وامتلاكه الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية والعلمية التى تمكنه من إحداث الفاعلية والتأثير والتدخل، لكى يقترب الخطاب من الواقع، ولأنه أى الغرب من ناحية أخرى يطمح أن يكون خطابه كونيا وعالميا وينسب له صفات الصلاحية والفاعلية والنموذج المؤهل لقيادة العالم وإصلاح أحواله.
وبالرغم من أن «ازدواجية المعايير» توضع فى خانة الانتقاد والانتقاص من المعايير الغربية، فإن الوجه الآخر لهذا الشعار والذى كثيرا ما يتم تجاهله يتمثل فى أن القائلين به يقبلون من حيث المبدأ وحدة المعايير وكلية المعايير أى يقبلون بأن تكون ثمة معايير موحدة وكلية لإصدار الأحكام وتقويم الظواهر والوقائع، وتبنى سياسات ومواقف متماثلة إزاءها لا تعرف التمييز أو التحيز والانحياز ولا تتأثر بالمصالح، أو على الأقل تزاوج يبن المبادئ والمصالح بطريقة تقريبية خلاقة ومبتكرة
فى المقاربة الغربية لمشكلات الشرق الأوسط لم يستطع الغرب التخلى عن هذه الازدواجية أو الكيل بمكيالين، وتبقى القضية الفلسطينية وإسرائيل مثالا واضحا وجليا ومستمرا حتى الآن، حيث لم تتمكن السياسات الغربية من تبنى وحدة فى المعايير فى التطبيق العملى، بل أعلنت ولا تزال انحيازها للأقوى أى لإسرائيل وانصرافها لنصرة الظالم، والتنكر للضحية والمظلوم على طول الخط، وذلك رغم التلميحات والإشارات الخجولة لبعض الدول الأوروبية فى موقفها من منتجات المستوطنات الإسرائيلية وغيرها من المواقف والإشارات من ذات الطبيعة والتى لا تستطيع التغطية على هذه الازدواجية فى تطبيق المعايير الحقوقية والسياسية والأخلاقية والإنسانية.
فى مجال المساعدات المقدمة لمصر وإسرائيل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عقب توقيع اتفاق كامب دافيد واتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية فى 1978، و1979 على التوالى، لم تتعرض المساعدات المقدمة لإسرائيل للتخفيض والتوقف فضلا عن زيادة حجم هذه المساعدات مقارنة بمصر، فى حين أن المساعدات لمصر تتعرض للتخفيض والتوقف كما حدث أخيرا وذلك بحجة ملف حقوق الإنسان فى مصر ولا يتم الالتفات مطلقا إلى سجل الممارسات الإسرائيلية والانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان الفلسطينى فى السجون والمعتقلات ومصادرة وهدم المنازل والأراضى المملوكة للشعب الفلسطينى.
فى الآونة الراهنة يبدو الموقف الأمريكى والغربى عموما من المذابح والمآسى التى يتعرض لها المسلمون فى بورما والتنكر لحقوقهم فى المواطنة وحرية الاعتقاد موقفا متدنيا وخجولا ومترددا، ولا يرقى إلى مستوى خطورة هذه الجرائم التى ترتكب من قبل الحكومة والجيش وحتى بمعاونة رجال الدين من البوذيين والمتطرفين.
ويبدو ضعف هذا الموقف واضحا إذا ما تذكرنا موقف الغرب من تطور الأحداث التى وقعت فى إقليم تيمور الشرقية فى عقد التسعينيات، إذ سارع الغرب إلى تقديم كل أشكال الدعم المعنوى والمادى والدبلوماسى لهذا الإقليم الفقير وشجعه على الانفصال عن إندونيسيا وتشكيل دولة مستقلة عبر إقرار حق تقرير المصير فى الاستفتاء الذى جرى فى عام 1999، أصبحت تعرف بجمهورية تيمور الشرقية الديمقراطية.
ورغم الاختلاف بين الحالتين أى حالة مسلمى بورما وإقليم تيمور الشرقية سواء من حيث المطالب أو من حيث درجة العنف والضحايا، فإن المقارنة تذهب فى اتجاه ازدواجية المعايير وغلبة الرهانات الاستراتيجية ورهانات المصالح على حساب المبادئ والقيم الإنسانية والكونية وممارسة لعبة الصمت والتواطؤ والانتظار والذى يدفع ثمنه المسلمون والأقلية المسلمة فى هذا البلد ولاشك أن إدارة شئون العالم بحاجة إلى الحكمة والنزاهة والحياد وتحكيم العقل وتطبيق المعايير دون استثناء وهى مسيرة طويلة ولكنها لم تبدأ بعد.