الأهرام
د . محمد حسين ابو الحسن
اللامعقول: حروب الكبار بنكهة إسلامية
فى عام 2008 قال تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى الأسبق: إن القرن المنصرم قرن السياسة، والحالى قرن الأديان. وهى إحدى المرات النادرة التى يصدق فيها الرجل؛ كانت الصراعات تغلف فى القرن الماضى بغلاف السياسة والوطنية، وبعيد 11 سبتمبر غلف بصراع الهويات فساطيط الإيمان والكفر، لكن بلير يتناسى أن التوظيف السياسى للأديان ظل حرفة الامبراطورية البريطانية الغاربة، دعمت «جماعة الأخوان» منذ بدايتها، وزرعت «إسرائيل» كيانا عنصريا غاصبا بقلب الشرق الأوسط، ومازالت تبدع.

‎ بداعى الإنصاف، الغرب ليس وحيدا فى ذلك، لكنه ضليع لحد التميز.. منذ قتل قابيل أخاه هابيل، شهدت التاريخ القرون، مجازر مروعة وضحايا بالملايين، كانت الأندلس مجتمعا متسامحا متحضرا، ولما تهاوت حصونها تحت سنابك خيول فرديناند وإيزبيلا، بدأت «محاكم التفتيش» باستئصال المسلمين واليهود، ثم تمددت للفرز بين الطوائف المسيحية نفسها. أواخر القرن السادس عشر ارتكب الأصوليون الكاثوليك فى فرنسا مجزرة «سانت بارتيليمى» الشهيرة، بحق مواطنيهم «البروتستانت»، صب القساوسة الزيت على نار الخلافات المذهبية - كما يفعل متطرفو السنة والشيعة المسلمون اليوم - واعتبر بابا روما جريجورى الثالث عشر المجزرة انتصارا للإيمان على الكفر والزندقة!»، بينما تجرع الكاثوليك بانجلترا الكأس نفسها، على أيدى كرومويل. خبرة المذابح، حملها الغزاة الغربيون إلى الأمريكتين، أبادوا شعوب الهنود الحمر، كما التتار فى اكتساحهم للخلافة العباسية، قلدهم اليابانيون ضد الصينيين والكوريين مطلع القرن العشرين. ثم اكتوى العالم بحربين عالميتين أزهقت ملايين الأرواح، نتيجة التعصب الأيديولوجى، فاشيا أو نازيا. بالتسعينيات تجلت العنصرية الدينية والعرقية، فى مجازر البوسنة، ومذابح الهوتو والتوتسى برواندا. من قبل أفضى التطرف الشيوعى والرأسمالى، بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، إلى حروب بالوكالة فى عدة مناطق، وظفت واشنطن حركات «الجهاد الإسلامى» بأفغانستان، لتركيع موسكو، وعقب أحداث 11 سبتمبر، انقلبت على تلك الجماعات، غزت واشنطن أفغانستان والعراق، تحول المجاهدون الذين ربتهم أمريكا وأمدتهم بالمال والسلاح إلى «رءوس الإرهاب»، عاصفة الدم ضربت المنطقة كلها، ابتكرت داعش والقاعدة وبوكو حرام والحشد الشعبى وغيرها من الجماعات الإرهابية، مستوى جديدا من القسوة، جثث تزرع الطرقات، فظائع تقتحم الشاشات، قتلى ولاجئون وأوطان ممزقة، وكله «باسم الله والشريعة»، زورا وبهتانا.

‎ الأبخرة الطائفية تملأ سماء بلدان المنطقة، فى الخلفية أجهزة مخابرات غربية وصهيونية تخطط وتمسك باللجام، للسيطرة على ثروات الشعوب ومصائرها، إنها لعبة الأمم فى أقبح صورها وأكثرها عدوانية، النسخة الأخيرة لصراع الكبار ظهرت فى ميانمار، وبنكهة إسلامية أيضا، أطلق المتطرفون البوذيون العنان لتعصبهم الأعمى ضد أقلية الروهينجا المسلمة، بإقليم «أراخين» المطل على خليج البنغال، انغمست الحكومة الديكتاتورية فى القتل.. تفاقم الوضع منذ بدأ إنتاج الغاز عام 2013 بسواحل ميانمار، بتمويل صينى. فى أبريل الماضى وقـّع اتفاق لاستخدام خطى أنابيب نفط وغاز، من ميناء تشاوبيو، بأرخين إلى جنوب الصين، فاشتد الاضطهاد البوذى للروهينجا، ظهرت بينهم حركة «يقين» المعارضة، انطلق جيش ميانمار فى حرب إبادة ضد المسلمين، نزح بعضهم إلى بنجلاديش وتايلاند، مازالت المأساة متواصلة، تحت بصر العالم. يبدو الأمر، على السطح، خلافا دينيا أو تعصبا بوذيا - إسلاميا، فى العمق صراع هائل على الثروة والنفوذ، وحروب بالوكالة، تحركها المصالح تحت عباءة الأديان، حصار أمريكى للتمدد الصينى، عبر تأجيج مشكلات ميانمار وكوريا الشمالية، بإذكاء التطرف البوذى وشيطنة المسلمين، تطويق الصين بكيانات «داعشية»، كما أغرقت الاتحاد السوفيتى بالوحل الأفغانى.

‎النزاعات الدينية أكثر الصراعات وحشية بين البشر، ينجح المتطرفون من كل الأديان والمذاهب فى فرض أنفسهم مدافعين عن الهوية الدينية أو القومية، تبدأ الفتن المدمرة بفتوى، ثم تصير مواجهات مروعة بالأزقة والحارات، الشعور بالخوف أو بانعدام الأمان لا يرضخ دوما لاعتبارات عقلانية، يقول الفيلسوف توماس هوبز: «إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، لن يكف عن ذبحه، إلا إذا تفككت العصبيات الطائفية وظهر على أنقاضها وعى جديد». أبرز معوقات هذا «الوعى الجديد» الإرث الاستعمارى الغربى ورعايته للأصوليات المتطرفة وتشوهات المجتمعات وتمزيقها، «فرق تسد» على أسس دينية أو عرقية، ليسهل نهب مقدراتها، الغرب لا يريد ندا أو منافسا، يريد الخضوع والطاعة. بالمقابل تلقى هذه الحقائق مسئولية على المجتمعات المستهدفة، أبسطها انتهاج العدل والمساواة التامة بين مواطنيها، بغض النظر عن اللغة أو الدين أو اللون أو الطبقة الاجتماعية، دون ذلك فإنها تكافح نيران «الحروب المقدسة» بمواد قابلة للاشتعال، كما يحدث فى ميانمار..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف