الوفد
أمينة النقاش
على فكرة - يحيى حقى والسياسة
كان يحيى حقى فى الرابعة عشرة من عمره حين قامت ثورة 1919،ورغم انه كان فى بداية مرحلة الصبا فقد شارك فى المظاهرات الشعبية التى خرجت تندد بسلطة الاحتلال البريطانى وتطالب بالاستقلال التام او الموت الزؤام أى الموت السريع كما عرفته قواميس اللغة العربية.وفى هذه المظاهرة سقط أمامه شهيدا صبى فقير هو الابن الوحيد لصانع القباقيب فى حى السيدة نفيسة، فيدعو إلى اقامة تمثال يخلد الثورة على شكل صبى بجلباب يرفع فردة قبقاب.
حبان تمكنا من يحيى حقى وشكلا مسيرته الابداعية والفكرية، الأول حبه الغامر للغة العربية الذى تلقنه فى منزل الأسرة، ثم بشكل أكاديمى منظم فيما بعد،على يد استاذه وصديق عمره المفكر الإسلامى محمود شاكر الذى قرأ على يديه تراث الشعر العربى فضلا عن تراثه النثرى. أما الحب الثانى الذى لا جدال فيه فقد كان لثورة 1919 التى فتحت له ولجيله أفاقاً غير مسبوقة للتحقق الابداع تأثرا بأفكارها التحررية التى تبلورت فى دستور عام 1923.وعلى أصداء تلك الأفكار وأنوارها سطع نجم كثيرين كان من بينهم توفيق الحكيم التى استلهمت روايتة عودة الروح أحداثها من روح الجماعة التى التفت حول الزعيم سعد زغلول فبات الكل فى واحد، ونشر طه حسين كتابه فى الشعر الجاهلى،وصب المثال محمود مختار تمثاله الرائد نهضة مصر الذى دشن به مدرسته الفريدة فى النحت، وكتب نجيب محفوظ ثلاثيته بين القصرين وقصر الشوق والسكرية عن أسرة من الطبقة الوسطى استشهد أحد ابنائها من مدرسة الحقوق برصاص الاحتلال فى المظاهرات الشعبية للثورة، وهى الطبقة التى تشكلت أثناء وبعد ثورة 19 لتقود الحركة الوطنية المصرية. كما احدث سيد درويش ثورة فى الموسيقى أمتدت من الألحان إلى الغناء والكلمات، حيث شهدت ساحة الغناء بدورها ثورة تجديدية فى الكلمات والأفكار بسطوع اسماء بيرم التونسى وبديع خيرى وأحمد رامى، مما مهد لصعود نجم أم كلثوم.
فى الكتاب الذى أصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة الاسبوع الماضى تحت عنوان"يحيى حقى..الفنان والأنسان والمحنة «،يروى رجاء النقاش أن يحيى حقى تزوج من فرنسية وعاد إلى مصر بعد نحو 25 عاما من عمله فى وزارة الخارجية، بعد أن رفض قادة ثورة يوليو استثناءه من القانون الذى يحظر على الدبلوماسى الزواج من أجنبية. وعمل فى وزارة الإرشاد القومى الى رأسها فتحى رضوان، فأسس بها مصلحة الفنون التى كانت نواة لوزارة الثقافة التى انشئت فى عام 1958.وبعد فترة وجيزة من تولى ثروت عكاشة مسئولية الوزارة طلب منه الرئيس عبد الناصر احالة يحيى حقى للمعاش بعد تسلمه لتسجيل صوتى يجمعه مع محمود شاكر ووزير الأوقاف آنذاك أحمد حسن الباقورى ينطوى على نقد حاد للقيادة السياسية، لكن حكمة ثروت عكاشة تمكنت من تعديل العقوبة من الاحالة للمعاش إلى تعيينه مشرفا على دار الكتب ورئيسا لتحرير مجلة "المجلة " فى نفس الوقت الذى تم فيه اعتقال محمود شاكر وإقالة الباقورى من منصبه.ويعلق رجاء النقاش على هذه الواقعة قائلا أن المناخ الديمقراطى هوالكفيل وحده بتوفير الحماية للجميع، فيقول كل صاحب رأى ما يعتقد علنا، وحين ذاك لن تحتاج السلطة إلى جواسيس أو أجهزة تسجيل. ولذلك يظل ناقصا التفسير الذى ذهب إليه الكتاب لعدم انتماء يحيى حقى لحزب سياسى، بارجاعه إلى طبيعته الشخصية ونزوعه إلى الاستقلال، والذى تمثل كذلك فى رفضه للكتابة فى الإهرام، وتمسكه بالكتابة للصحف محدودة التوزيع مثل التعاون والمساء والمجلة. والأغلب الأعم أن المناخ التحررى لثورة 19 الذى نشأ وتربى وعمل فى ظلاله يحيى حقى جعله عصيا على التطويع، مؤمنا حقا بالديمقراطية التى تتيح التعدد الثقافى والفكرى والسياسى والحزبى، وتدفع بالبلاد التى تطبقها إلى الأمام، وترتقى بشعوبها، وتخفف من من التحديات التى تواجهها، وهو ما لم يكن متوفرا فى الحالة المصرية حتى موته سنة 1992،ولا حتى بعدها!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف