الأهرام
محمد سلماوى
الصدفة فى معركة اليونسكو
انتقلت في خمس ساعات طيران من حر القاهرة الي سقيع العاصمة الفرنسية باريس غير المعتاد في هذا الوقت من السنة، حيث وجدت درجة الحرارة - أو البرودة - تتراوح ما بين ثماني درجات, واثنتي عشرة درجة، مع قطرات مطر خفيفة, لكنها لا تتوقف، ورياح هائجة تزيد من الإحساس بالبرودة.

قصدت مبني منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» بميدان فونتينواه بالحي السابع، حيث ترتفع مع كل يوم جديد حرارة الاستعدادات التي تجري علي قدم وساق للجولة الأولي للتصويت علي منصب المدير العام، وهو المنصب الذي ترشح له هذه المرة تسعة مرشحين من فرنسا والصين وفيتنام ولبنان والعراق وقطر وأذربيجان وجواتيمالا وفي مقدمتهم المصرية مشيرة خطاب مرشحة القارة الإفريقية.

واذا كنت أقول إن المرشحة المصرية في مقدمة المرشحين فذلك ليس تحيزا لها لأنها تمثل مصر، وإنما لأني وجدت الرأي السائد هنا داخل أروقة اليونسكو يشير الي أن التنافس في النهاية سينحصر بين مصر وفرنسا والصين، والذين تقف وراء كل منهم دولة قوية تعمل بدأب لإنجاحه، أما علي المستوي الشخصي فإن العاملين بالمنظمة يَرَوْن علي سبيل المثال أن مشيرة خطاب تتفوق علي منافستها الفرنسية وعلي ممثل الصين معا، ففي الوقت الذي قدمت المرشحة المصرية أمام المجلس التنفيذي بيانا وافيا حول رؤيتها لليونسكو في المرحلة القادمة، موضحة كيفية إدارتها، وأهم القضايا التي تستوجب اهتمامها، غير متجاهلة ضرورة العناية بالجهاز الإداري للمنظمة، والذي سيقوم بتطبيق الرؤية التي عرضتها، فإنها في الوقت نفسه حققت تواصلا انسانيا مع كل من قابلتهم في اليونسكو، وذلك في الوقت الذي جاء بيان المرشحة الفرنسية تقليديا، ولم يتميز بيان المرشح الصيني.

والحقيقة أن النظرة الغالبة داخل المنظمة، هي أن ترشيح أودري أزولاي وزيرة ثقافة الرئيس السابق فرانسوا أولاند، ذات الأصول المغربية اليهودية، والذي جاء في اللحظة الأخيرة، كان بغرض تسكين إحدي وزيراته المقربات في موقع مناسب بعد مغادرته قصر الرئاسة، أما أزولاي نفسها فهي شخصية باردة وغير محبوبة تفتقر الي الحيوية التي اتسمت بها المرشحة المصرية، فى أثناء لقاءاتها بأعضاء المجلس التنفيذي لليونسكو، أما المرشح الصيني وهو مندوب بلاده الدائم في اليونسكو منذ سنوات، فيتردد كثيرا أن الصين، وهي أكبر الدول المانحة لليونسكو ستدعمه بقوة مالية كبيرة.

وقد تقرر أن تكون الجلسة الأولي للتصويت علي المرشحين التسعة داخل المجلس التنفيذي يوم 9 أكتوبر المقبل، فإذا لم يفز أي من المرشحين بالأغلبية المطلقة لأصوات أعضاء المجلس البالغ عددهم 58 دولة، ومثل هذا الفوز من الجولة الأولي للتصويت هو أمر نادر الحدوث، يعاد التصويت بحد أقصي خمس جولات علي مدي عدة أيام، فإذا لم يفز أحد تجري القرعة بين المرشحين الاثنين الحائزين علي أعلي الأصوات.

ورغم أن الترشيح الفرنسي جاء متجاهلا ما كان قد اتفق عليه من أن الدورة الحالية يجب أن تكون من نصيب العرب، فإن الرأي العام داخل اليونسكو مازال يري بأغلبية كبيرة أن هذه هي دورة العرب الذين ساهموا في إنشاء المنظمة، لكنهم لم يحظوا بإدارتها في الوقت الذي فازت الدول الأوروبية المعروفة باسم المنطقة (1)، بمنصب المدير العام ست مرات، وفازت بقية المناطق الجغرافية بإدارة اليونسكو مرة واحدة علي الأقل.

وقد شاهدت داخل إحدي قاعات العرض بمبني اليونسكو معرضا فنيا متفوقا لمجموعة من الفنانات البحرانيات وعلي رأسهم الفنانة الكبيرة بلقيس فخرو، واللاتي قدمن صورة مشرفة للمرأة العربية ونموذجا واضحا لتقدمها الذي عادة ما تغطي علية الصورة النمطية التي يقدمها الإعلام الغربي للمرأة في الوطن العربي، وقد أعرب لي أحد الأصدقاء من الصحفيين الفرنسيين الذين يتابعون سباق المدير العام عن إعجابه بحسن اختيار توقيت المعرض، متصورا أن ذلك كان مقصودا بحيث يخدم علي قضية اختيار مرشحة عربية لموقع المدير العام للمنظمة، لكني تأكدت أن هذا لم يكن مقصودا، فلم أقل له إن العرب لا يرتبون أمورهم بهذا الشكل، وأن الصدفة عادة ما تخدمنا أكثر مما تخدمنا الخطط المعدة سلفا.

ومن الصدف الأخري التي تخدمنا في هذا المجال، والتي أعلم أن المرشحة المصرية تنوي استثمارها، حلول الذكري المائتين لاكتشاف الأثري الايطالي جيوفاني بلزوني لمعبد أبو سمبل عام 1817، ذلك المعبد الذي أصبح يمثل مناسبة تعاون غير مسبوقة بين مصر واليونسكو، ففي عام 1959 أطلقت مصر بالمشاركة مع اليونسكو دعوي عالمية لإنقاذ هذا المعبد الفريد، وهو في الحقيقة معبدان يمثلان أحد أهم آثار الحضارة الإنسانية في العالم، وفي ذلك الوقت لم تكن اليونسكو قد شاركت من قبل في مشروع بمثل هذه الضخامة، لكن تضافر الجهود بينها وبين الحكومة المصرية نجح في جعل مختلف دول العالم تسهم في المشروع، وإذا كان هذا المعبد يقف اليوم شامخا وراء السد العالي بتمثال رمسيس الثاني العملاق علي واجهته، فهو يعتبر رمزا لهذا التعاون المثمر بين مصر واليونسكو، وقد أدي نجاح هذا المشروع الي اضطلاع اليونسكو بمشاريع أخري مماثلة، حيث أشرفت عام 1966 علي إنقاذ مدينة فنسيا الإيطالية من السيول التي كادت تغرقها، وذلك بعد أن تمرست من خلال إنقاذ معبدي أبوسمبل علي عمليات إنقاذ التراث الإنساني المهدد، وقامت بأعمال مماثلة في إندونيسيا عام 1972، وفي كمبوديا عام 1993، وفي البوسنة عام 1995، وأخيرا في الكونجو عام 2000.

والحقيقة أن التعاون بين مصر واليونسكو في إنقاذ معبدي أبو سمبل يحمل في الوقت نفسه معني آخر غاية في الأهمية، ذلك أن الدعوي لإنقاذ المعبد نجحت في اشراك الدول الكبري التي كانت قبل ذلك التاريخ بأقل من ثلاث سنوات في حالة حرب مباشرة مع مصر، فأصبحت الآن قابلة بالتعاون معها من خلال اليونسكو حفاظا علي التراث الإنساني الذي تزخر به أرضها، إن مثل هذا المعني يكتسب أهمية خاصة في عالم اليوم الذي كثر فيه القتال وسفك الدماء علي مختلف المستويات، وهو ينبيء بما تستطيع أن تقوم به مصر أرض الحضارة والتاريخ من خلال رئاستها اليونسكو، في خدمة التفاهم والتعاون الدوليين.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف