المصريون
جمال سلطان
تحية العلم في الجامعات وطقوس الوطنية المزيفة
لا أعرف بالضبط من هو صاحب فكرة تحية العلم في طابور صباح ينعقد في الجامعات المصرية ، والتي تمثل خطوة جديدة على طريق إهانة المؤسسات المصرية وإغراقها في طقوس شكلية أبعد ما تكون عن الوطنية الحقة ، وفي تصوري أن هذه "الافتكاسة" الجديدة هي من نبت أفكار وزير التعليم العالي نفسه أو أحد مساعديه ، في محاولة منهم للمزايدة على مشاعر الوطنية المفتعلة الآن والتي تموج بها مصر وإعلامها ، والتي ابتذلت فيها الوطنية وتحولت إلى محض شعارات وهتافات وطقوس مثيرة للشفقة ، تقربا للقيادة السياسية وتزلفا لها .
هذه الطقوس المتكلفة والمفتعلة والمترعة نفاقا وتزلفا لا يمكنك أن تراها في مجتمع متحضر أو دولة ناضجة أو أمة من الأمم المنتجة والمتفوقة اقتصاديا وعسكريا وعلميا ، عادة ما تجد مثل تلك الطقوس الوطنية الهزلية في الدول الصغيرة والقمعية والمتخلفة والتي تعيش عقدة نقص وهوان وتهميش وفقر ، وفي كوريا الشمالية من لا يصفق بحرارة كافية لخطاب الزعيم تتم معاقبته ، ولا يمكن أن يبقى في منصبه ، ولذلك تجد حرارة التصفيق في النخبة المحيطة بالزعيم مثيرة للشفقة والضحك أحيانا ، حتى إذا ضحك لا بد أن يضحكوا ، وفي تونس أيام الحبيب بورقيبة كان الخبر الرئيسي في نشرة أخبار التليفزيون الرسمي للدولة قيام "المجاهد الأكبر" بالتريض في حمام السباحة مع السيدة حرمه ، لتكتب المقالات الضافية في أهمية الحدث لأن صحة تونس من صحة القائد ! ، ويبدو أن هناك من يتصور مصر في تلك الوضعية وتلك الحال .
مشكلة هذا النوع من المزايدات الفجة والرخيصة أنه يهدر طاقات المؤسسات الوطنية في الهذر والمزاح والتفاهة ، لأن المسئول الذي ينشغل ذهنه بالبحث عن مثل هذه الطقوس النفاقية لا يمكنه أن ينتج أو يثمر أو يبدع في عمله أو يضيف إلى وطنه قيمة جديدة أو مشروعا جديدا ، باختصار لا يمكن أن يكون وطنيا حقا ، ذهنة ونفسيته مشغولان بأمور أخرى ، لا صلة لها بالإبداع والانتاج والتطوير وخدمة الوطن ، ذهنه ووعيه ووجدانه مشغولون بالبحث عن "افتكاسة" تدخل السرور على قلب الزعيم ، وتجعله يرضى عنه أو ينظر إليه بعين الرضى ، ويدرك أن نجاحه في هذه "المهمة" هو سنده الوحيد في بقائه في منصبه ، وليس إنتاجيته أو إبداعه أو نجاحه المهني أو تطويره للعمل أو إسهامه في نهضة وطنه ، ويبدو أن البعض وصلته الرسالة ضمنيا بأن هذا النوع من النفاق السياسي أو المزايدات أو الهزل هو الطريق الفعلي ، ليس فقط للبقاء في المنصب الرفيع ، بل وللترقي إلى ما هو أعلى وأرفع من المناصب ، ولو أن أولهم عندما اتجه إلى هذا المنحى الرخيص قوبل بغضب القيادة أو التوجيه الصارم بالانشغال بعمله ، وأن الوطنية أن يضيف للوطن كل ما هو مثمر ومبدع ومتطور ، لانتهى من بعده عن هذه الفعلة ، ولتوقف سوق المزايدات ، واتجه الجميع للعمل والإنتاج وليس للفهلوة والافتكاسات التافهة والمبتذلة .
عند الانجليز مثل يقول : العربة الفارغة أكثر جلبة للضوضاء ، وهو مثل يسري على الأشخاص كما يسري على الدول ، فالدول المشغولة بالتطور والبناء والإنجاز والانتاج والعلوم والمعارف والتحضر لا تجد فيها مثل تلك "الجلبة" والضوضاء التي تفتعل الهتاف للوطنية والتباهي بالأمجاد والتاريخ وحتى بالأكاذيب ، لا تسمع لتلك الدول صوتا إلا في صفقة كبيرة تدر مليارات الدولارات للخزينة العامة ، أو كشف علمي رفيع ، أو دواء جديد مبهر للإنسانية وينقذ الملايين من مرض عضال أو ترتيبات لرحلة فضائية تكشف الكون المجهول أو ما شابه ذلك من إنجازات حقيقية ، وتركوا للمتخلفين الهتافات والضوضاء الصاخبة والأغاني الوطنية التي أصبح انتشارها وكثرتها ترتبط مع درجة تخلف المجتمع وضعفه ، كما يرتبط اختفاؤها أو ندرتها مع تفوق المجتمع ، فالدولة العفية القوية الناضجة وصاحبة الحضور الدولي غنية بمنجزاتها عن تلك المساحيق الرخيصة .
أرجو أن يكون هناك بقية من عقل ووعي في هذا البلد توقف هذه السخافة ، وتوقف إهانة مصر والوطنية المصرية في هذا السيل من التزلف والمزايدات السياسية الفجة والمبتذلة .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف