اليوم السابع
محمد مصطفى ابو شامة
بليغ
تُسعِدُني وتمتِّعُني حالة التسابق السنوي بين 17 سبتمبر و7 أكتوبر، التي يليق أن نطلق عليها «أيام بليغ حمدي»، فبين التاريخين ذكرى وفاته عام 1993، وميلاده عام 1931، تنطلق الحفلات الموسيقية (وتتصدرها دار الأوبرا المصرية)، وتتبارى وسائل الإعلام ويتقدمها الإعلام الرسمي («ماسبيرو زمان».. والآن) في إعادة تذكير جمهوره وعشاقه بإبداعاته وموسيقاه الخالدة.

لقد اقتربنا من ربع قرن على رحيله، وما زالت موسيقاه تلقى الشغف الذي أحاط به حيًّا، والوهج الذي لازَمَه خلال رحلته الفنية، وبقيت ألحانه في مقدمة الأعلى استماعًا كما أنها الأعلى إيرادًا وفق تقديرات جمعية المؤلفين والملحنين المصرية، وهذا العام توجت أسطورة بليغ حمدي برواية أتمَّتْ ملامح خلود قصته بعد أن حُفِرت ألحانه في أعماق الشخصية المصرية، فأصبح الأكثر قربًا إلى لقب «فنان الشعب».

قدم لنا المؤلف الواعد طلال فيصل روايته «بليغ» قبل شهور في معرض القاهرة الدولي للكتاب في غلاف جذاب من تصميم الفنان هاني صالح، ومن إصدار «دار الشروق»، التي تقف دائمًا وراء كل ما هو مميز ومحترم في عالم النشر الورقي عبر تاريخها الممتد، واختار الناشر أن يضع على الغلاف الخلفي هذه الكلمات: «يدور الكثير من أحداث رواية (بليغ) بين باريس ومصر، ليخرج لنا المؤلف رواية تنتمي للوقائع الحقيقية وللبحث التاريخي، بقدر ما تنتمي لخيال كاتبها ورؤيته».

وأظن أن نجاح الرواية وتفوقها (من أعلى المبيعات)، هو خيرُ احتفاءٍ هذا العامَ بسيرة الموسيقار الراحل، وفي ظني أنها حالة عشق ومحبة صادقة لفنان، ورحلة ناجحة بين أطلال الزمان، وإبحار ممتع ومثير في عبقرية ألحان، ومتاهة حقيقية في تفاصيل هذا الإنسان.. البسيط الرائع.. الصوفي الضائع.. بليغ حمدي.

الكتاب «الرواية» فيه جهد راقٍ لتحليل ملامح عبقرية بليغ، والكشف عن الدور المحوري للمرأة في حياته، الذي تجلَّى في بطلتين، هما سيدة الغناء العربي أم كلثوم، والمطربة الكبيرة وردة الجزائرية، الأولى منحته أمومةً فائقةً أنضجت تجرِبتَه ومنَحَتْ موسيقاه بطاقةَ المرور إلى كل القلوب العربية، والثانية منحته الإحساس الصادق الذي خلق جسرًا مباشرًا بينه وبين نهر الإبداع فتدفقت ألحانه.

لقد أمتعتني الرواية كعمل متكامل بما حَوَتْه من خط موازٍ لقصة «بليغ»، قدم فيها طلال ذاته عبر «حبكة» مماثلة لما قُدِّم بها بليغ، مزجًا واعيًا بين الواقع والخيال بما يجعلك تتعايش مع كلا الشخصين وتذوب في حياتهما، مدمجًا خيالك وواقعك الشخصي مع سيرتهما، غير منشغل بالسؤال التقليدي: أين توقف الواقع، ومتى كان ما يقال خيالًا؟! وأكثر ما أمتعني في الرواية هو توقُّفي المتكرر بحثًا عن أغنية قام المؤلف بالتعرض لها وتشريحها فنيًّا، لأعيد الاستماع إليها من جديد كأني أسمعها للمرة الأولى، وبعضها بالفعل كنت أسمعه لأول مرة، وأعيد تذوقه واكتشاف مناطق جديدة في السيرة الإبداعية لهذا الملحن الفذّ.

وسواء كانت قصة مذكرات بليغ التي أوردها المؤلف ضمن روايته، حقيقة أم خيالًا، فقد شكلت حجر زاوية في ترسيخ الأسطورة كما سَجَّلها التاريخ والتقطَها المؤلف ببراعة، وأعاد تشكيلها ليضعها أمامنا في أبهى صورها، وأجمل ما سجله بليغ في هذه المذكرات كانت تلك الكلمات: «الواحد يبقى عبيط لو حسب أنها بشطارته.. الحكاية كلها رزق.. العطاء رزق.. الحب رزق .. والموسيقى رزق.. حتى الألم يمكن علامة رضا.. علامة افتكار» .
الله يرحمك يا بليغ !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف