للروائي المغربي محمد شكري، رحمه الله، رواية عظيمة عنوانها «الخبز الحافي» أنصحك بقراءتها، لكن إياك أن تعتقد أنني استوحيت منها عنوان المقال، لأن «الخبز الوهمي» اختراع مصري خالص، يرجع فضل «أو عار» اكتشافه إلى نظام دعم الخبز الذي تم تطويره بـ«نظام جديد» جعل الوضع أكثر سوءًا!.
النظام السابق كان يقضي باستلام صاحب المطحن للقمح من هيئة السلع التموينية دون دفع مقابل مادي، ويحصل على النخالة مقابل أجرة الطحن، ثم يقوم بتسليم الدقيق لأصحاب المخابز على سبيل الأمانة، وبعد أن ينتج الخبز ويبيعه بـ٥ قروش للمواطن يحصل على الفرق بين تكلفة الإنتاج وسعر الدقيق من الدولة عبر وزارة التموين. ولأن هذا النظام تسبب في استنزاف «أو نهب» مليارات الجنيهات طوال ٣ سنوات، اجتمع الوزير بقيادات الوزارة، ورئيس شعبة المخابز باتحاد الغرف التجارية ورئيس الشعبة نفسها بالقاهرة ووضعوا نظامًا جديدًا لدعم الرغيف.
ووفقًا للنظام الجديد، فإن صاحب المطحن يدفع لهيئة السلع التموينية ثمن القمح نقدًا، ويبيعه بعد طحنه طبعًا إلى صاحب المخبز نقدًا، على أن يقوم صاحب المخبز، بعد خبزه طبعًا، ببيعه للمواطن بـ٥ قروش «المرة دي عدًا ونقدًا» وتسجيل ما تم بيعه على «السيستم» ليحصل من وزارة التموين، على تكلفة الرغيف بعد خصم الـ٥ قروش. وحسبوها كالتالي: ١٨٠ جنيهًا على كل جوال دقيق، وبما أن الجوال ينتج ١٢٥٠ رغيفًا، فإن دعم الرغيف الواحد يصبح ١٤ قرشًا. وكان دعم الجوال ٢٠٠ جنيه في النظام السابق، وتم تخفيضها ٢٠ جنيهًا تقديرًا من شعبة المخابز للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد!.
قبل أن تصفق لهذا الكلام الجميل وتقول «هييييييه»، انتظر حتى أضيف أن الوزارة وضعت أسعارًا محددة لكل مراحل إنتاج رغيف الخبز، لتضمن حصول جميع العناصر المشاركة في المنظومة على هامش ربح مناسب، بدءًا من الفلاح، مرورًا بصاحب المطحن ووصولًا إلى صاحب المخبز. وبالفعل بدأ العمل بهذا النظام في ١ أغسطس الماضي، وخليك فاكر التاريخ، لأننا سنحتفل بهذا اليوم بعد عدة سطور. وكانت النقطة الأهم في هذا النظام، النظام الجديد، كما قيل، هي أنه يجبر صاحب المخبز على النظر جيدًا في جودة الدقيق الذي يقوم بشرائه من المطحن، حتى لا ينتج خبزًا جودته سيئة يرفض المواطن شراءه منه، ويذهب إلى مخبز آخر منافس.
حلو الكلام؟. ستقول طبعًا إنه حلو وجميل ومعقول وقد تعتقد أنها فرصتك لتقول «هيييييييه» وتصفق حتى تتورم كفاك وتصيح الله ينوّر عليك يا أستاذ خليفة أو يا دكتور مصيلحي. لكن قبل أن تقول أو تصفق، يؤسفني أن أخيّب أملك وأحاول إحباطك وأقول لك إن هذا هو كلام الورق أو الكلام النظري، الذي اختلف تمامًا عن كلام الواقع أو التطبيق العملي.
الواقع قال إنه خلال الفترة من ١ أغسطس ٢٠١٧ وحتى ١٦ سبتمبر ٢٠١٧ حصل مخبز واحد على دعم يبلغ ٢ مليون و٣٥٨ ألفًا و٩٥٢ جنيهًا، بما يعني أنه خبز وباع ١٣ ألفًا و١٠٥ أجولة دقيق خلال ٤٥ يومًا أي ١٦.٥ مليون رغيف. وبما أن المواطن يحصل على ٥ أرغفة، يكون عدد من حصلوا على هذه الكمية ٣ ملايين و٣٠٠ ألف، وبقسمة العدد على ٤٥، لأن المواطن يشتري العيش يوميًا، يكون عدد المتعاملين مع هذا المخبز يوميًا ٧٣٣٣٣ مواطن وتِلت!. أي أن المخبز كان يقف أمامه كل يوم طابور يمتد من منطقة الزوايدة، خورشيد، بالإسكندرية، أي من مكان المخبز، حتى حدود الجزائر غربًا، ولو توجهوا شرقًا سيحتل ذيل «أو مؤخرة» الطابور إمارة قطر!.
طبيعي أن يستفز رقم بهذه الضخامة أو بهذا الفُجر «بضم الفاء»، أيّ عاقل أو حتى مجنون يجيد العد على أصابعه. والحمد لله تم «تسيير حملة مشتركة مفاجئة من مديرية تموين الإسكندرية بالاشتراك مع الإدارة العامة لمباحث التموين ومباحث تموين الإسكندرية» واكتشفت قيام صاحب ذلك المخبز باختراق «السيستم» وتسجيل عمليات بيع وهمية لـخبز وهمي لمواطنين وهميين، وما لم يكن وهميًا، فقط، هو المبلغ سالف الذكر الذي استولى عليه. وأرجوك ألا تضحك حين تعرف أن هذا الاكتشاف العظيم حدث بعد أن «تجمعت معلومات لدى المديرية تفيد بقيامه بإنتاج كميات كبيرة من الخبز تفوق المعدل الطبيعي لزمن الإنتاج المخصص لها»!.
في مقال عنوانه «براءات اختراع في النهب!»، كنت قد توقفت عند مالك مخبز في مدينة نصر، نجح في الاستيلاء على ٢١ مليون جنيه من أموال الدعم، باختراق نظام تشغيل الشركة المسئولة عن تنفيذ منظومة البطاقات الذكية «سمارت» والرقم هو ما اكتشفته فقط مباحث التموين، مما قام بـ«تحويشه» طوال سنوات!. وتوقّفت أيضًا عند موظف تسويات مالية في شركة «سمارت»، تم أيضًا إلقاء القبض عليه، بعد أن استولى على مليون و٢٠٠ ألف جنيه باقتطاع جزء من مستحقات أصحاب المخابز وتحويلها إلى حسابات بنكية خاصة به!. بالإضافة إلى مدير مكتب تموين استولى على مئات البطاقات الذكية وظل يستخدمها نيابة عن أصحابها، لفترة طويلة!.
الثلاثة وصفتهم بأنهم عباقرة، وهذا خطأ أعترف به وأتراجع عنه. إذ إن تكرار الأمر واستمراره بهذا الشكل المفزع يقول إنهم ليسوا عباقرة أو حتى أذكياء، بل يستغلون غباء «البطاقات الذكية». أما مَنْ لم يتمكنوا من وقف نزيف المليارات التي يتم نهبها باستغلال غباء «البطاقات الذكية»، فلا أعتقد أني أتجاوز لو قلت إنهم أغبى من الغباء نفسه!.