صلاح سالم
المعونة الأمريكية والحيوية المصرية
عندما بدأ برنامج المعونات الأمريكي لها قبل أربعة عقود، كانت مصر قد أنهت الحضور السوفيتى فى قلب المشرق العربى منذ عام 1972، وخرجت ظافرة من حرب أكتوبر 1973، أحد أشرس الحروب النظامية فى النصف الثانى للقرن العشرين، ودخلت لتوها عملية سلام مع إسرائيل 1977 غيرت جذريا نمط التفاعلات الإقليمي حتى الآن. كان ذلك يعنى أن مصر لديها القدرة على قراءة المشهد الدولى والتأثير فيه، وأن بيدها قرار الحرب ومفاتيح السلام فى المنطقة. وهو ما كان العقل الأمريكى يدركه واثقا أنه يجنى سياسيا واستراتيجيا من العلاقة مع مصر أضعاف ما تكسبه مصر ماليا من المعونة، التى كانت تمنح لها باحترام شديد، رغم أن حجمها الكلى البالغ مليارين وثلث المليار دولار تقريبا كان من الأهمية بما لا يقاس عليه اليوم، حيث قللت تحولات العقود الأربعة المنصرمة من أهميتها على نحو حاسم: فأولا تقلصت القيمة الاسمية لبرامج المعونة اقتصاديا وعسكريا إلى أكثر قليلا من النصف. وثانيا تطوع الفارق الكبير فى أسعار السلع والمنتجات المفترض أن توجه إلى شرائها، خصوصا السلع العسكرية، بالإطاحة بما تبقى لها من قيمة فعلية. وثالثا أجهز التطور الكبير فى حجم الناتج القومى للاقتصاد المصرى بقيمتها النسبية، فبعد أن كانت تمثل ما قيمته 3 % من ناتج قومى لا يزيد عن خمسين مليار دولار نهاية السبعينيات صارت لا تتجاوز 3من عشرة بالمائة من ناتج قومى يقترب من خمسة أضعاف حجم بانهاية السبعينات.
لكن ورغم ذلك يبقى للمعونة الأمريكية مغزاها الكبير، كمظلة للعلاقة بين البلدين، تؤكد استمرارية مصر كبؤرة إيجابية ضمن التصور الأمريكى الإستراتيجي للعالم، أما توقفها فيمثل إشارة سلبية تشى بانقطاع، وتؤدى إلى فراغ يفرض على البلدين البحث عن بدائل حقيقية تملأ المساحات الخالية التى كان يشغلها كل طرف فى إستراتيجية الآخر، حيث يتعين على الولايات المتحدة البحث عن قوة إقليمية لديها القدرة والرغبة فى لعب دور نقطة الارتكاز الفعال للسياسة الأمريكية فى الإقليم، القادرة على ضبط إيقاعاته. كما تبدأ مصر فى البحث عن حليف دولى له مكانة شبه قطبية ، يصلح لتقديم الدعم والإسناد الدبلوماسيين أو العسكريين فى حالة وقوع أزمات كبرى فى الإقليم كى لا يصل إلى حد الانفجار.
ولعل هذا البحث كان قد بدأ على استحياء منذ احتلال العراق، منذ العقد ونصف العقد تقريبا، وما أعقبه من سكون كامل فى جبهة المشرق العربى، وبزوغ إيران كقطب رحى فى استراتيجيات الإقليم. ولأن العقل الأمريكى براجماتى التكوين لا يؤمن بالقيم المثالية والغايات البعيدة أخذت تيارات فى الولايات المتحدة تنظر إلى برنامج المعونة باعتباره غير ذى معنى، ومن ثم سعت إلى تقليصه فى مناسبات شتى وبحجج مختلفة، ودوافع سياسية مباشرة وصلت إلى حد الابتزاز أحيانا. غير أن كلا من الطرفين لم يحقق النجاح المطلوب فى الحصول على بديل، فأمريكا لا تزال هى القطب العالمى الذى لا يجارى تأثيره فى القضايا العالمية، ومصر هى القطب العربى الذى يصعب خلق بديل له، ورغم تعطل قدراته وتراجع فعاليته لم يستطع أحد وراثته، فبديله هو الفوضى وليس أى فاعل آخر، وعلى هذا اتخذت العلاقة بين الطرفين شكل القلق الصامت واليأس الخفى، لأن التصريح يفرض على كل طرف إعلان خياراته البديلة للمستقبل، وطالما أن الخيارات تلك لم تتبلور بعد، فالتأجيل هو الحل، من دون أن يمنع ذلك الصمت وجود ذبذبات وتوترات على النحو الذى نشهده هذه الأيام، فسواء كان الأمر هو تخفيض المعونة أو تعليق جزء منها، وسواء كان السبب خارجيا يتعلق بطبيعة العلاقة مع كوريا الشمالية، أو داخليا يتعلق بوضع ملف الحقوق والحريات، فلا يعدو الأمر أن يكون تعبيرا عن تململ استراتيجي لعلاقة فقدت زخمها الطبيعى وباتت أسيرة قصورها الذاتى.
وقد يكون خطيرا أن تسعى أمريكا إلى التحكم فى علاقتنا بالآخرين على هذا النحو العارى من الدبلوماسية، وقد يكون معيبا أن تقبل مصر إملاء أمريكيا لكيفية تشكيل علاقتها بالآخرين، ولكن يبقى ملف الحقوق والحريات بمثابة مصلحة مصرية بالأساس يجب السعى إليها من منطلق ذاتى ، بل إنه الطريق الوحيد الذى يتعين على مصر السير فيه، سواء أرادت أن تستعيد بريق صداقتها مع الولايات المتحدة، أو حتى الاستغناء عن تلك الصداقة، فالقدرة على ممارسة الخيارين بنجاح إنما تتطلب استعادة الحيوية المصرية التى كانت لها فى الخمسينيات والستينيات، والتى أخذت تتآكل منذ السبعينيات. والمؤكد هنا أن ركائز القوة ومقومات الحيوية القديمة لم تعد صالحة للعمل، وأن مصر مطالبة بالبحث عن ركائز قوة جديدة ومقومات إلهام فريدة، يمكن التبشير بها عربيا، كما يمكن الدفاع عنها أخلاقيا فى عالم القرن الحادى والعشرين.
وإذا ما كان التعاطى الجاد مع أزمتها الاقتصادية الخانقة من منظور التنمية المستدامة، عبر ترقية التعليم والتصنيع والصحة العامة هى نقطة الانطلاق الأساسية لأى فعل حضارى ممكن، فإن نجاح هذا الفعل وضمان استمراريته إنما يتطلب تحديدا دقيقا لمعالم رسالة حضارية يبتغيها ورؤية ثقافية يمكن التبشير بها. فمثلا، كان سبق مصر إلى الحداثة الثقافية، وممارسة دور الجسر الذى عبرت عليه القيم والفنون والأفكار الحديثة إلي الأمة العربية، قد وفر أرضية جذابة لدورها على مدى قرنين مضيا. غير أن تلك الجاذبية كانت قد فقدت سحرها بفعل الشمولية السياسية التى أجهضتها وأربكتها، ومن ثم صارت بحاجة إلى ترميم قوتها وتجديد رسالتها بقيم الحداثة السياسية كالعلمانية، والديمقراطية والتعددية، واحترام الذات الفردية، التى تمثل جوهرا لكل المنظومات الحقوقية، ما يعنى أن السير على طريق التعددية والحرية واحترام حقوق الإنسان هو الفعل الأخلاقى والشرط الضرورى معا، سواء للحفاظ على صداقة الولايات المتحدة أو للقدرة على تحديها.