لا تخف، ولا تتوجل، فما سوف يأتى ليس عن ثورة من ثوراتنا، فهناك نوعان من الثورات: ثورات سياسية تقلب الدنيا رأسا على عقب، ولكنها رغما عن ذلك قد تأخذ الإنسان فى النهاية إلى الخلف؛ وثورات تقلب العالم أيضا رأسا على عقب، ولكن المحتم أنها سوف تغير حياة الانسان إلى الأفضل. هذا النوع الأخير هو ما سوف نتحدث عنه، ومنذ ثلاثة عقود نشر لى مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت كتاب «العرب ومستقبل النظام العالمي»، وفيه بدأت الحديث عن «الثورة العلمية التكنولوجية الثالثة» وتأثيراتها على تشكيل القوى وتوازناتها فى العالم. لم يكن موضوع الثورات التكنولوجية من الأمور الشائعة فى الكتابات العربية، ورغم أن أستاذنا محمد سيد أحمد ـ رحمه الله ـ كان كثير الحديث والكتابة فى الموضوع، فإن الصدى كان قليلا حتى من جانب من يعتبرون أن التطور فى «قوى الإنتاج» هو العامل الرئيسى فى حركة التاريخ. فى ذلك الوقت، الثمانينيات من القرن الماضي، كان التطور فى هذه القوى هو الذى وضع الأساس المادى لزوال الاتحاد السوفيتي. لم يكن أكبر النظم «الاشتراكية» فى التاريخ جاهزا لهذه الثورة رغم قيامه بغزو الفضاء، وامتلاكه واحدة من أكبر الآلات العسكرية فى التاريخ.
هذه قصة أخرى على أى حال، أما الثورة الرابعة فحالها كما كان فى الثورات الثلاث السابقة هو إحداث تحولات عميقة فى الحياة البشرية. انظر فى التاريخ وسوف تجد الثورة الأولى قامت على المياه وطاقة البخار المتولد عنها، وقامت بميكنة عملية الإنتاج بعد أن كانت تعتمد على القوة العضلية للإنسان. الثورة الثانية قامت على الطاقة الكهربائية التى فتحت الباب للإنتاج الواسع والجماهيري، باختصار فتحت الأسواق لجميع البشر لاستهلاك ما كان يستهلكه الصفوة. الثورة الثالثة قامت على الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات وقامت «بأتمتة الإنتاج» لخلق علاقة وثيقة بين تصميم المنتج وترجمة ذلك إلى إنتاجه. الثورة الرابعة وهناك من يعتبرها امتدادا للثورة الثالثة، ولكن من لا يعتبرونها كذلك يرونها تداخلا بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية. هى النتيجة الطبيعية للثورة فى الذكاء الصناعي، والروبوتات، والنانوتكنولوجي، والبايوتكنولوجي، وعلوم المواد، واختزان الطاقة، وعمليات الحساب الهائلة (الكوانتم).
منذ وصلت إلى الولايات المتحدة كانت حقائق هذه الثورة تطارد «تويتات» دونالد ترامب وما تولده من أزمات سياسية. ودون الدخول فى كثير من التفاصيل فإن منتجات الثورة الرابعة ظاهرة فى السيارات دون سائق، وطائرات «الدرون» التى هى الأخرى دون طيار؛ ولم يكن ممكنا لهذا أو ذاك الوجود دون حالة الانتشار للذكاء الصناعى والمساعدات الافتراضية أو قرون الاستشعار والبرامج القادرة على الترجمة والعمليات الحسابية المركبة وبالغة التعقيد. مثل هذا ليس تطورا علميا وتكنولوجيا فقط، وإنما اجتماعيا واقتصاديا كذلك. حتى عام 1960 كانت شركات الحديد والصلب هى عنوان القوة والسيطرة الاقتصادية والسياسية، وحتى عام 1980 كانت شركات السيارات، ومعها شركات البترول تتصدر طائفة الخمسمائة شركة فى العالم، وحتى نهاية القرن العشرين كانت شركات مايكرو سوفت وآبل وسامسونج هى المتصدرة للسباق. الآن فإن هذه الأخيرة لم تعد وحدها المتصدرة فى الأسواق بل أصبحت أمازون وجوجل وفيسبوك هى الصاعدة والقادرة على إنتاج وتسويق وتوزيع شبكات هائلة من المنتجات.
من المهم أن نعلم أن العالم القديم لا ينتهى فجأة، وعندما بات واقعا أن تكنولوجيا السيارات الحديثة أصبحت تقوم أولا على الكهرباء، وثانيا على انتهاء القيادة الإنسانية للسيارة؛ فإن ذلك لم يكن يعنى إقبال الناس على شراء هذه السيارات. فى كاليفورنيا ظهر أن التشريعات القائمة لا تتناسب مع سيارة دون قائد، فلا بد أن يكون هناك من يتحمل المسئولية فى حالة التصادم. وفى أريزونا فإن أرباب الأسر لم يكن لديهم ثقة فى سيارة بلا قائد تأخذ أولادهم إلى المدرسة. كانت هناك فجوة ثقة تحتاج إلى العبور لأنه فى الواقع فإن السيارة بدون قائد هى أكثر أمانا من تلك التى يقودها الانسان. فى مثل هذه السيارة الجديدة فإنها لا تغادر مكانها إلا إذا كانت كل عملياتها سليمة، وقرون استشعارها كاملة التجهيز، هى لا يذهب عقلها بعيدا فى أثناء الحركة، ولا يجذب نظرها فتاة جميلة ولا شاب وسيم، وهى لا تشعر بالغضب من تصرفات السائقين أو حتى العربات الأخري. باختصار فإنها خالية من كل أدوات الاضطراب فى عملية صنع القرار لدى الإنسان الذى كثيرا ما يتسبب فى الحوادث.
فى الأسبوع الماضى خرجت شركة آبل على الدنيا بمنتجاتها عن العام الحالي. كان الظن أن الشركة الشهيرة سوف تفقد جزءا من سحرها بعد وفاة مؤسسها ستيفن جوبز. ولكن الرجل كان من الذين لا يموتون أبدا لأنه خلق مجتمعا كبيرا بامتداد الكرة الأرضية قادرا على التجدد والإبداع والابتكار. جزء من هذه العملية تدريب المستهلك على التغيير السريع نسبيا للمنتجات عما كان عليه الحال فى السابق، فهى لا تكف عن تقديم تحسينات على المنتجات الموجودة بالفعل؛ ولكن الأهم أن ذلك لا يمنعها من الاستعداد لطرح منتجات جديدة لا تعطى منتجا ما، وإنما أسلوب حياة مختلف. ساعة أبل على سبيل المثال لم تعد أداة لقياس الزمن فقط، ومتابعة توقيتات الحياة، هى أداة تواصل مع بشر آخرين، ومع المعلومات، ومع قياس حركة الجسم الإنساني. هى اتصال مستمر مع عقل صحبها. وبعيدا عن تفاصيل الآى فون الجديد المسمى إكس X ، فإن الحقيقة هى إيجاد امتدادات جديدة للعقل البشرى والتواصل الإنسانى سواء كان ذلك للغرام أو التآمر أو إدارة شركات كبيرة.
فى خلال التسعينيات من القرن الماضى نادى الصديق الدكتور محمد السيد سعيد رحمه الله بأن تندرج مصر فورا فى الثورة الصناعية الثالثة، لأن بقاء التركيز على الثورة الثانية لا يعنى إلا استمرار التخلف عن بقية العالم. اليوم فإن الرئيس السيسى مطالب بتشكيل لجنة قومية تدرس وتفتح الباب للكيفية التى لا تجعلنا نتخلف مرة أخرى عن ثورة تكنولوجية رابعة تولد الآن!.