فى ثمانينيات القرن الماضى، تمت سرقة «الونش»، آى والله، الونش الذى كان يقوم بحفر مترو أنفاق المرحلة الأولى، تمت سرقته من شارع رمسيس، محطة الإسعاف، فى عز الظهر، لم يسأله أحد إلى أين يتجه، ولا متى سوف يعود، أعتقد أنها كانت السرقة الأسهل على الإطلاق رغم ضخامتها، أصبح الناس يتندرون بعدها (إحنا اللى سرقنا الونش)، لم يُعثر له بعدها على أى أثر، قد يكون تم تفكيكه، وقد يكون تم تلوينه، وقد يكون بيع خردة، السارق الذى يعمل بالموقع بالتأكيد وجد من الصعوبة حمل ما خف وزنه، ذلك أنه سوف يتم تفتيشه حال الخروج، هو تعامل مع الوضع بمنطق (إن سرقت اسرق جمل)، لذا ركب الجمل وشرخ، ربما ساعده رجال المرور فى عبور الشوارع المزدحمة بطبيعة الحال.
التاريخ يعيد نفسه، لم يعد اللصوص يقتنعون بسرقة حبل الغسيل أو بسرقة الغسيل، أو حتى بسرقة سبيل المياه من الشوارع، أو فلنكات السكة الحديد، أو بسرقة مِعزة من هنا أو جوز فراخ من هناك، ذلك أن اللصوص تغيروا، اختلفوا عما كان عليه الوضع فى الأزمنة الغابرة، أصبحوا من بهوات وباشوات المرحلة، ساكنى القصور والمنتجعات، لذا هم يلجأون الآن إلى ما غلا ثمنه حتى لو ثقل وزنه، سرقوا من المتاحف والمخازن المختلفة ما يزيد على ٣٤ ألف قطعة أثرية تم رصدها، بخلاف ما لم يتم رصده، لم ينتفض المجتمع، وكأن شيئاً لم يحدث، أصبحوا لا يسرقون متعلقات البشر، بل يسرقون أعضاءهم، مافيا كبيرة لسرقة الأعضاء البشرية تم الإمساك بها أخيراً، بخلاف من هم طلقاء لم يتم اكتشافهم، هكذا كان تطور الجريمة.
الجديد هو ما حدث أمس الأول، محاولة سرقة قصر محمد على باشا بشبرا الخيمة، اللجنة الأثرية المشكلة للجرد قالت إن الأبواب تم كسرها، ومفاتيح بعض الحجرات اختفت، إلا أن مقتنيات القصر سليمة!! هكذا قالت اللجنة، وكأن اللصوص كانوا يريدون التريض والفسحة بالقصر، أو مشاهدته فى غير أوقات العمل الرسمية دون أن يعترضهم أحد، على اعتبار أن كسر الأبواب هذه الأيام يحدث فى صمت ودون ضجيج، وفى تناقض واضح بين الكسر واختفاء المفاتيح، ذلك أن اختفاء المفاتيح يعنى أن الأمر لا يستلزم الكسر، والعكس صحيح.
بالتأكيد، أحد الخفراء «هايشيل الشيلة» كما جرت العادة دائماً وأبداً، وهو الأمر الذى يجب أن نتوقف أمامه فى معظم أزماتنا التى تنتهى بالحفظ دون تحديد الفاعل، يجب أن نتوقف أمام كل ما مضى، أولاً أمام سرقة ٣٤ ألف قطعة أثرية، لا يجب أبداً حفظ التحقيق أو الطرمخة، أثق بأن مباحث الآثار تعى كل كبيرة وصغيرة، أثق بأنها تعرف اللص والتاجر والمسؤول الكبير والخواجة ممول العملية، أو بمعنى أصح ممول كل عملية على حدة، لا أريد اعتبار مباحث الآثار جزءاً من ذلك الذى يجرى، رغم أنه من حقنا الشك والريبة، مادام الصمت مطبقاً.
الوضع نفسه ينطبق على سرقة الأطفال أو اختفائهم، أو بمعنى أوضح سرقة أعضائهم البشرية، مع اختفاء كل طفل يجب أن يختفى أحد مسؤولى الأمن من وظيفته، ومع ثبوت قتل كل طفل يجب أن يُحاكم وزير الداخلية، ومع تنامى تجارة الأعضاء البشرية إلى هذا الحد يجب محاكمة الحكومة كاملةً، الإعدام هو الحل الوحيد للمتورطين فى مثل هذه القضايا، أطباء وتجارا وممولين وكل من لهم علاقة بالموضوع، كلٌ منا يجب أن يتخيل أن هذا الطفل هو ابنه قبل أن يُفتى فى هذه الكارثة.
من الواضح أن التخاذل تجاه الجرائم الكبرى هو الذى يشجع على ارتكاب مزيد من العينة نفسها أو غيرها، لذا كان الدور على القصر، وأى قصر؟! قصر محمد على باشا، سرقة التاريخ، هو إصرار واضح على محو تاريخ مصر، آلاف القطع الأثرية فى أكثر من دولة من دول العالم بطريق غير رسمى، رغم ذلك هناك من الخبراء من يدافع عن السرقة، بحجة أنها تمت قبل صدور هذا القانون أو ذاك، أو بحجة عدم تعكير صفو العلاقات الثنائية، أو بزعم عدم الشوشرة، ملعونة هى القوانين والعلاقات والشوشرة التى يمكنها التفريط فى حق شعب كان طوال الوقت ضحية لنخبته ومسؤوليه.
سواء كانت السرقة قد تمت من قصر محمد على أم لم تتم، نحن أمام جرس إنذار، (مصر بتتسرق، تاريخ مصر بيتسرق، تراث مصر بيتسرق)، العالم من حولنا يقيم متاحف بالآثار المصرية، وسط بلاهة شديدة لم نرها من قبل، أو وسط استفادة مباشرة للبعض وغير مباشرة للبعض الآخر، المعنيون بالأمر أصبحوا أكثر بلاهة، الرؤوس مبطوحة، كما الضمائر ميتة، أما عن النفاق فحدث ولا حرج، المسؤولون ودن من طين وأخرى من عجين، على أكثر تقدير سوف يتم الإعلان عن كسر الأبواب، إلا أن المقتنيات كما هى!!، فى الوقت نفسه سوف يعلنون أن هذه هى آثارنا المنهوبة لدى الآخرين، إلا أنها ليست مسروقة ومن حقهم عرضها!!، كل ما فى الأمر أن الناهب أهداها لمن يدفع أكثر، ويخرج الفراعنة من المولد بلا حُمُّص، لكِ الله يا مصر.