الدستور
ماجد حبته
بعض ما قلته في «الأمم المتحدة»!
في عالم متشابك ومعقد ومليء بتحديات يصعب أن تواجهها أي دولة منفردة، مهما كانت قدراتها ومهما اشتد عزمها، كان من الطبيعي أن تقترِن خطة مصر التنموية الطموحة، بسياسة خارجية نشطة، تستلهم المبادئ الأخلاقية الراسخة في تراثنا وثقافتنا، وتلتزم بالمبادئ القانونية للنظام العالمي الذي شاركت في تأسيسه، بالتزامن مع الحرب الضروس التي نخوضها لاستئصال الإرهاب من أرضنا، ملتزمين بمواجهته وتعقبه، والقضاء عليه بشكل نهائي وحاسم حيثما وُجد، ليس فقط دفاعاً عن مستقبل مصر، بل دفاعًا عن مستقبل المجتمع الدولي بأسره.



لا يمكن تصور وجود مستقبل للنظام العالمي بدون مواجهة شاملة وحاسمة مع الإرهاب، تقضي عليه وتستأصل أسبابه وجذوره، وتواجه بلا مواربة كلَّ من يدعمه أو يموّله، أو يوفر له منابر سياسية أو إعلامية أو ملاذات آمنة. وبصراحة شديدة، فلا مجال لأي حديث جدي عن مصداقية نظام دولي يكيل بمكيالين: يحارب الإرهاب في الوقت الذي يتسامح فيه مع داعميه، بل ويُشركهم في نقاشات حول سبل مواجهة خطر هم صُناعُّه في الأساس (واللي على راسه بطحة يحسس عليه!). ويتعين على الجميع الإجابة عن الأسئلة العالقة التي نطرحها، والتي يمتنع عن الإجابة عليها كل من يُفضّل المواءَمة والازدواجية، لتحقيق مصالح سياسية على أنقاض الدول ودماء الشعوب، التي لن نسمح (لن نسمح) أن تضيع هدراً تحت أي ظرفٍ كان.



ولأن طريقَ الإصلاح يمر بالضرورة عبر الدولة الوطنية، ولا يمكن أن يتم على أنقاضها، فإن المخرج الوحيد الممكن من الأزمات التي تعاني منها المنطقة العربية، هو التمسك بإصرار بمشروع الدولة الوطنية الحديثة، التي تقوم على مبادئ المواطنة، والمساواة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، وتتجاوز بحسم محاولات الارتداد للولاءات المذهبية أو الطائفية أو العرقية أو القَبَلية. كما أن الطريق الوحيد لتسوية الخلافات في عالمنا، هو احترام مبادئ القانون الدولي، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها،. فلا يمكن، بعد أكثر من سبعة عقود من تأسيس الأمم المتحدة، أن تكون القوة أو المعادلات الصفرية هي الوسيلة لتحقيق المصالح.



لا خلاص في سوريا الشقيقة، إلا من خلال حل سياسي يتوافق عليه جميع السوريين، ويكون جوهره الحفاظ على وحدة الدولة السورية، وصيانة مؤسساتها، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والسياسية لتشمل كل أطياف المجتمع السوري، ومواجهة الإرهاب بحسم حتى القضاء عليه. والطريق لتحقيق هذا الحل هو المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة، والتي تدعمها مصر، بنفس القوة التي ترفض بها أي محاولة لاستغلال المحنة التي تعيشها سوريا، لبناء مواطئ نفوذ سياسية إقليمية أو دولية، أو تنفيذ سياسات تخريبية لأطراف إقليمية، طالما عانت منطقتنا في السنوات الأخيرة من ممارساتها، وقد آن الأوان لمواجهة حاسمة ونهائية معها.



وبالمثل، فلا حل في ليبيا إلا بالتسوية السياسية، التي تواجه محاولات تفتيت الدولة وتحويلها مرتعاً للصراعات القَبَلية، ومسرح عمليات للتنظيمات الإرهابية وتجار السلاح والبشر. وأؤكد هنا، بمنتهى الوضوح، أن مصر لن تسمح باستمرار محاولات العبث بوحدة وسلامة الدولة الليبية، أو المناورة بمقدرات الشعب الليبي الشقيق، وينطبق نفس المنطق على العراق واليمن. كما حان الوقت لمعالجة شاملة ونهائية لأقدم الجروح الغائرة في منطقتنا العربية، وهي القضية الفلسطينية، التي باتت الشاهد الأكبر على قصور النظام العالمي عن تطبيق سلسلة طويلة من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وعلينا إغلاق هذا الملف، من خلال تسوية عادلة، تنشئ الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ما قبل عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.



وتقع أفريقياً موقع القلب في السياسة الخارجية لمصر، فهي القارة الأم، التي تضرب فيها الجذور المصرية بعمق التاريخ. وقد باتت أفريقيا، عُرضةَ لنفس الأخطار الأمنية التي تتعرض لها المنطقة العربية، وتظل بدورها شاهداً رئيسياً على أزمة النظام الاقتصادي العالمي، الذي يتحمل مسئولية رئيسية عن إنتاج الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تهدد الاستقرار والسلم الدوليين، وتجعل من الحديث عن أهداف التنمية المستدامة مجرد حديث مُرسل، لا شاهد عليه من الواقع الدولي المؤسف. مع أن القضاء على جذور ومسببات الأزمات الدولية، يمر بالضرورة عبر تفعيل مبدأ المسئولية المشتركة، متفاوتة الأعباء، بين أعضاء المجتمع الدولي، لتضييق الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية.



أي مصداقية يمكن أن تكون لمنظمة الأمم المتحدة وأجندة 2030 وأهداف التنمية المستدامة، عندما يكون النظام الاقتصادي العالمي نفسه مسئولاً عن تكريس التفاوت، وبعيداً عن قيم العدل والمساواة؟ وأي فرصة يمكن أن تكون متاحة أمام الدول النامية، مهما صح عزمها على تبني إصلاحات اقتصادية شاملة تعالج أوجه الخلل في إدارتها لمواردها، بدون معالجة جذرية لأوجه الخلل في الأوضاع الاقتصادية العالمية؟.



لنتحرك معاً لتمكين الشعوب من استعادة مقدراتها، وفتح آفاق جديدة للتعاون بين كل أعضاء المجتمع الدولي، لنخرج سوياً من دائرة المصالح الضيقة وتغليب منطق القوة، إلى رحابة المصالح الإنسانية المشتركة والتعاون بين الجميع. ولنكن صرحاء مع أنفسنا، إذ يتعين علينا جميعاً التخلص من سياسات الاستقطاب، وأن تسعى كل دولة لتطوير مصالحها مع مختلف الشركاء الدوليين، ودون أن يستعدى ذلك أحداً.



..ولا تبقى غير الإشارة أن هذا هو ما سمحت به مساحة المقال، مما قلته أو من رسالتي، التي نقلها الرئيس عبد الفتاح السيسي نيابةً عني، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ72، بقدر من التصرّف وبترتيب مختلف وبهدوء الواثق المحترف. وأعتقد أنها رسالة كل شعب مصر، باستثناء 3% تقريبًا!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف