التحرير
علاء خالد
فصل من فصول المدرسة السعيدة
في المرحلة الثانوية التحقت بمدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العسكرية، التي تقع فى حي السيوف الذى يبعد عن بيتنا مسافة نصف الساعة بالترام تقريبا. اخترت هذه المدرسة البعيدة بسبب رغبتي فى أن أستقل الترام وأستخرج "أبونيه مسافة كاملة" وأكون عضوا من أعضاء هذا الحزب الجوال الذى يجوب المدينة ذهابا وإيابا بدون أن يدفع شيئا. بالرغم من أن المدرسة كانت تطبِّق نظام اليوم الكامل، وبها تدريبات عسكرية شاقة، ونرتدي فيها بذلة عسكرية كاملة موحدة، لا تتناسب مع المراهقة ورغبتها فى التعدد والتمرغ فى الألوان، بجانب بيادة سوداء ثقيلة ذات نعل سميك من جلد الجمال، تدب على الأسفلت وتصدر صريرا مزعجا؛ فإنني تغاضيت عن كل هذا، أو لم أضعه فى حسباني، مقابل الانضمام لهذا الحزب الجوال. كنا نقف على محطة ترام بولكلي صباحا فى انتظار فتيات مدارس البنات التي تقع على الخط. برغم هذه الدقائق القليلة، في هذا الصباح الباكر، فإنها سجلت مجموعة من الذكريات وحفرت معها مجموعة من الوجوه، وأعتقد أن هذا حدث أيضا على الطرف الآخر.
هناك علاقات تطورت وسمحت بحديث قصير متعجل وسط هذا الضجيج الطلابي الفارغ والمصطنع، تحت شجرة البونسيانا العجوز التى تفرش ظلها على المحطة، بجوار كشك عم سعيد الذي كان يفتتح يومه بنوبات من السعال المتواصل. إحداهن كانت ملكة جمال بلا منازع، تعرف مقدار جمالها وامتلاكها للقلوب والنظرات التي تحوط وقفتها على المحطة. لم تفرط أبدا فى هذه المنزلة الرفيعة، ولا في وظائف هذا الوجه الرباني. هذا الوجه، حتى الآن، يقاوم حركة الزمن العكسية، بل تفوق عليه فى القوة، وربما أنا أيضا أقاوم هذه الحركة العكسية للزمن، بالتذكر. لو تأخرنا على الطابور الصباحي، فيكون هناك عقاب أو ما يسمى "طابور ذنب" أو"تكدير"، نقوم فيه بأداء "تمرين تسعة" وهو تمرين الضغط المعروف، أو "تمرين ستة": النزول على الأرض مع تبادل ثني الركبتين، اليمين ثم اليسار، وهكذا، بينما اليدان خلف الرأس. يصرخ أحدهم بحنجرة مصطنعة تضخِّم الصوت "تسعة استعد".
هذا الرقم المجرد الذى ينطقة قائد الطابور، وهو طالب مثله مثلك، تخشاه بعد ذلك وتحاول التودد إليه، يضع شارة حمراء على كتفه، ويشبه شبلا من أشبال حزب فاشي مهمته حفظ النظام. ندخل الفصول برئة مخلوعة أو برُكب سائبة، تصدر صوتا يشبه صوت تكسُّر حزمة حطب ناشف بسبب ممارسة العادة السرية لتك السن المتوهجة بالخيالات العارية. أحيانا يكون العقاب شديدا ومهينا بأن نقف فى عز البرد وكل منا يأخذ عصاتين أو أكثر على يده المتجمدة من البرد، بعصا المدير المصنوعة من الخيزران الحر والتي نزعها من إحدى شماسي المصيف وأتي بها للمدرسة لتذكرنا دوما بالصيف الضائع من حياتنا. كانت المدرسة توزع وجبة طعام يومية، عبارة عن ساندويتش جبنة رومي مع ساندويتش مربى أو حلاوة، وبيضتين وبرتقالة أو إصبع موز. نادرا ما آكل المربى أو الحلاوة، بسبب لزوجتهما.
فكان هناك طالب متعهد أكل المربى والحلاوة والبيض. يسير ورائي كظلي، بعد استلامي التعيين، حتى أمنحه الكوتة اليومية. كان عنده جوع فطري لا يسده نصيب ثلاثة طلاب مثلي لا يحبون الحلاوة والمربى.
كان أحدنا متخصصا في توريد مجلات البلاي بوي للفصل، وربما كانت من ميراث البيت الذى نشأ فيه.
لا شيء أكثر من هذا، أن نرى الأجساد العارية للنساء وسط هذا النظام العسكرى، لتتضاعف المتعة. ربما تصطبغ المتعة بنزق التحرر. كانت المجلة تتحرك على أفخاذنا تحت التخت من بداية الفصل حتى نهايته. وربما كنا نصنع بذلك عهدا أبديا بيننا، أهم بنوده البحث عن هذه الأجساد العارية، وأننا بمجرد خروجنا من المدرسة وانتشارنا كالنمل فى خلايا المجتمع وأعصابه وأجهزته الحكومية وجامعاته ونواديه؛ سنقوم بالتهام سُكَّر هذه الأجساد وفاء لهذا الخيال الجمعي.
صور الجنس، والمرأة بشكل عام، كانت تتسرب وسط هذا المناخ الذكوري الصارم، فى الشارع والمدرسة، بحجم مضخم وبصدى صوت ثابت ومكرر كنوع من الحواز النفسي، وأيضا بغريزة أكبر من قدرتها، المرأة، على الوفاء بها فيما بعد.
أحد الطلاب الذين دخلوا الطبقة المتوسطة عنوة فى السبعينيات، كان أبوه يعمل جزارا؛ أراد أن يلتهم سُكَّر هذه الأجساد مبكرا. كان له لحية طويلة وكثيفة لا تتناسب مع عمره، كأنه مولود جاهز بها لاختصار عدة مراحل عمرية.
كانت لهذا الطالب الزعيم شلة مدمنة على طوابير الذنب اليومية، وتتقبل العقاب بصدر رحب، ودون أدنى مشكلة. وأحيانا كانوا يقفزون من السور العالي للمدرسة، من الناحيتين، حتى لا يمروا على طابور الذنب، أو قاعات الدرس. حاول هذا الطالب المسن الاعتداء الجنسي على خادمة الفيلا المجاورة للمدرسة.
تسلل إلى الفيلا في الصباح الباكر، وبمجرد أن فتحت الخادمة حتى هجم عليها وأراد أن يحتضنها ويقبلها، ولا أعرف الباقي. ولكن فى اليوم التالي لهذه الواقعة شديد البرودة والمطر؛ حضر ولي أمر هذا الطالب الجزار بجلبابه، وعمامته، وتم إذاعة ما حدث فى طابور المدرسة الصباحي، وجيء بالطالب وسط الطابور وجيء بطالبين من فصيلة "عشماوي".
طلب مدير المدرسة من الطالب المذنب أن يخلع حذاءه، وقام "العشماويان" بتعليقه من قدميه، وانهال أبوه على هذه القدم العارية بالضرب المبرح بعصا الشمسية المصنوعة من الخيزران الحر، حتى لحظة انفجر فيها الأب الجزار بالبكاء وتكوم على هذه القدم الذبيحة واحتضنها عندما بدأ الدم يسيل منها. نقاط الدم التى تجمعت فى هذا النهار الشتوي لم تمح من ذاكرة فناء المدرسة الذي تمدد بدوره في ذاكرتي، بقوة هذه الدماء المهدرة، وفي ذاكرة رفقاء الرحلة.
لم تكن هناك امرأة تعبر بهذه المدرسة، سوى الحَكيمة، كانت هى رمز الأنوثة فى هذا الجزء الذكوري الساقط من العالم، كنا نتحول إلى مرضى نقف أمامها بالطوابير. كان لها صدر مكتنز لافت، غطى على وجهها غير الجميل وعلى قامتها القصيرة وعلى سنها الأمومية. كان الحس العسكرى الذكوري والانضباط المبالغ فيه يجعلنا نعرى أى امرأة تعبر بهذا المكان. كنا نحسد بشدة طلاب المدارس المختلطة، ونشعر بأنهم يمتلكون مفتاح سر من أسرار الطبيعة. كانت أقصى أمانينا، نحن أبناء المدارس الحكومية، أن تكون هناك فتاة، بجوارنا على التختة فى المدرسة، وفي الترام، وفى ساعات الملل، وفى غرف المذاكرة، وفى قاعة السينما؛ تشغل كل هذه المقاعد الفارغة والأشد حضورا فى ذاكرتنا. هل كنا نريد الفتيات حقا أم نريد أن نتخلص من عبء الغريزة وطاقتها العنيفة، وأن نخلى سبيلها سريعا بدون مجهود، وبدون أي إحساس بالمسئولية؟ كان هناك مجموعة من الطلبة من طبقات اجتماعية متميزة يجمعها هذا الزي العسكري الاشتراكي الموحد، من الطبقة الوسطى وما فوقها. كان أحدهم ابنا لمحام شهير وعضو مجلس شعب، في عصر السادات، وينتمي لعائلة ريفية ثرية لها "إقطاعيات" في محافظة مجاورة. كان يأتى للمدرسة فى عربة خاصة بسائقها، توصله لباب المدرسة ومن المستحيل أن يمر على طابور ذنب يمكن أن يبهدل بذلته العسكرية شديدة الأناقة، المكوية والمنشَّاة، ويعفر بيادته اللامعة. كنا نحتمي به أحيانا، فقد كان بمقدوره أن يهز أركان المدرسة لو غضب. كنا نتسلل معه خلف تبة ضرب النار التى تقع في نهاية الفناء، لنشرب السجائر، كان هذا الطالب يأتى معه باسبراي مستورد يرشه داخل فمه، ليخفي رائحة السجائر. تجمعنا في بيته فى إحدى المرات، كانت بمناسبة عيد ميلاده.
هنا ظهرت السلطة الروحية والمادية فى البيت والمعازيم وبنات أصدقاء الأب ورجال السياسة.
"البريق" الذى لم يترك ثغرة فى فضاء البيت لكي أريح عليها بصري ولو بضع دقائق، فلم يكن هناك مفر إلا من الاستئذان والنزول فى هذا الليل البهيم الذى يحوط الشقة فى الحي اللاتيني. والذي يضاعف أي وحدة. كانت السلطة دانية قطوفها من هذا البريق، مثل السلطة الربانية الممنوحة لملكة جمال محطة بولكلي. أما نحن النمل الصغير الذى يمني نفسه بقطع من السكَّر يلتهمها في المستقبل، الذي لم تظهر منه أي علامة بعد؛ فقد كنا نتأرجح بين السلطة الربانية، والسلطة الوضعية، ولا نملك أيًّا منهما. تذكرت محمد شكري صاحب رواية "الخبز الحافي" الذي "فاته أن يكون ملاكا" كما يذكر في روايته. لقد فاتنا جميعا، نحن جيوش النمل الصغير الذي يسعى نحو نثار السكر فى الحياة، في روايات المستقبل التي لم نكتبها بعد في ذلك الوقت؛ أن نكون ملائكة.




تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف