المصريون
د. عبد الآخر حماد
مغزى اتخاذ الهجرة مبدأً للتاريخ
من أقوى الإجماعات التي وقعت في عهد الصحابة رضوان الله عليهم اتفاقهم في عهد عمر رضي الله عنه على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من السنة التي هاجر فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ،وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/268 ) عن بعض أهل العلم أن القضايا التي اتفقت له صلى الله عليه وسلم ،وكان يمكن التأريخ بها هي: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم ((فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة،وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة )).
ولا شك أن هذا الذي نقله الحافظ رحمه الله في سبب اختيار الهجرة مبدأً للتاريخ الإسلامي معقول ومقبول ،لكنا حين نوسع دائرة النظر والتأمل يمكننا أن نضيف إلى ذلك معاني أخر حول بواعث اختيار الصحابة رضوان الله عليهم لسنة الهجرة لتكون بداية للتاريخ الإسلامي.
1-فمن ذلك التأمل في كون الهجرة النبوية الشريفة نصراً من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه كما جاء به النص واضحاً صريحاً في كتاب الله عز وجل حيث قال سبحانه : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) [ التوبة 40].
ولا ريب أن من معاني النصر هنا إنجاء الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وعدم تمكين المشركين منه،وهو ما يذكره المفسرون غالباً عند هذه الآية،ولكن اعتبار الهجرة نصراً يدخل فيه -والله أعلم- ما مثلته الهجرة من نقلة نوعية في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث كانت بدايةَ تأسيس دولة الإسلام التي لا عز للمسلمين إلا بوجودها والانضواء تحت لوائها، ثم ما تلا ذلك من الوقائع التي نصر الله فيها رسوله والمؤمنين، وقد أشار ابن عطية إلى نحو من هذا حيث قال في تفسير هذه الآية: ((ويحتمل أن يكون قوله: (فأنزل الله سكينته) إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون الجنود الملائكة النازلة ببدر وحنين...)). [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:( 6/500) ].
وبهذا المعنى تكون الهجرة علامة فارقة بين عهدين: أولهما عهد استضعاف المؤمنين وتسلط الكافرين عليهم، وثانيهما عهد العزة والتمكين.
ومعنى ذلك أن الصحابة فهموا جيداً أهمية الدولة في الإسلام ؛فحيث كانت الهجرة بداية للعز والتمكين ناسب أن تكون بداية للتاريخ، فكأن تاريخ الإسلام الحقيقي يبدأ بقيام دولة الإسلام في المدينة ،وقد ذكر السهيلي فيما نقله عنه ابن حجر أن الصحابة قد استفادوا ذلك من قوله تعالى:(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) [ التوبة:108 ]، فقد وصفت الآية اليوم الذي أسس فيه مسجد قباء أو المسجد النبوي - على اختلاف بين المفسرين في ذلك- بأنه أول يوم ،قال السهيلي : (( ومعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر،وهو أول الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: (من أول يوم) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي )).[ فتح الباري: (7/268 ) ] .
إن هذا الموقف من الصحابة رضوان الله عليهم يؤكد ما نلهج به دائماً من أن الإسلام ليس مجرد علاقة روحية بين العبد وربه ،وإنما هو نظام كامل شامل لكل مناحي الحياة ،والمسلمون خلال تاريخهم الطويل لم يكونوا يعرفون تلك النظرة العلمانية التي تفصل بين الدين وشؤون الحياة ،وإنما وفد إلينا ذلك الفصام النكد بين الدين والدولة ضمن ما وفد إلينا من جراء الاحتلال الأوربي لبلاد المسلمين ،وغذَّاه في بلادنا ونماه وجود أناس من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ،ولكنهم أشربوا في قلوبهم تلك النظرة الغربية القائمة على الفصل بين الدين والدولة ،وهم يزعمون فيما يزعمون أن الدين يتسم بالثبات ،بينما وقائع هذه الحياة متغيرة وأن ما قد يصلح للناس اليوم قد لا يصلح لهم غداً ،ولذا فإن النأي بالدين عن الحكم في وقائع الناس هو السبيل الأمثل من وجهة نظرهم ،والحقيقة أن كلا الافتراضين غير صحيح ،فليست كل أمور الحياة متغيرة بل فيها أمور كثيرة تتسم بالثبات ،وكذلك ليست كل أمور الدين ثابتة،بل إن شريعة الإسلام تجمع بين الثبات والمرونة في مواجهة الوقائع والحوادث فالثبات في الأصول والأهداف ،والمرونة في الفروع والوسائل ، وأهل العلم يعرفون أن هناك في الشريعة أموراً محكمة قطعية لا يجوز المساس بها ولا الاجتهاد فيها ، كفرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الزنا والربا والخمر وغير ذلك ، وهناك فيما وراء تلك المحكمات مجال واسع للاجتهاد فيما لم يرد به نص قطعي أو إجماع ، شريطة أن يكون ذلك الاجتهاد منضبطا بالأصول والضوابط الشرعية ، وأن يقوم به أهله الذين ملكوا أدواته ،لا أن يترك لكل من هب ودب يجتهد وفق رأيه وهواه .
2- ثم إن هناك ملمحاً آخر نلمحه من خلال توافق الصحابة رضوان الله عليهم على اختيار سنة الهجرة بداية للتأريخ ،ألا وهو استقلال الشخصية المسلمة وعدم تبعيتها لغيرها ،فقد كان أمام الصحابة وهم يتشاورون في الأمر كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (3/204) أن يأخذوا بسنة الفرس الذين كانوا يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد ،أو أن يأخذوا بطريقة الروم الذين كانوا يؤرخون بملك الإسكندر الأكبر ،ولكنهم طرحوا ذلك جانباً ورأوا أنه لا بد أن يكون للأمة المسلمة شخصيتها المتميزة التي تأبى التبعية للغير ،ولعل ذلك من أسباب عدم تأريخهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم حبهم له صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم جميعاً بأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان خيراً وبركة ورحمة للبشرية جمعاء ،لكنهم رأوا في ذلك مشابهة لمن نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم ،فرجعوا إلى حادث الهجرة الذي كان بداية لاستقلالية الأمة وقدرتها على التميز عن غيرها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف