الوطن
د. محمود خليل
رحلة الآلام والإيمان
كانت رحلة الهجرة رحلة آلام.. من ذهب إلى مكة للحج أو للعمرة، ثم قطع المسافة إلى المدينة المنورة، يتذكر ما لقيه من عنت ومشقة لا حصر لها، خصوصاً إذا انتقل بالأوتوبيس، وهو الوسيلة الغالبة على نقل الحجاج والمعتمرين، فالمدينة تبعد عن مكة بما بقرب من 400 كيلومتر. تخيل هذه المسافة قطعها النبى، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبوبكر الصديق على راحلتين، وفى أحيان سيراً على الأقدام، هنالك بين شعاب الجبال وفى الصحارى التى لا ترحم شمسها عابراً فى طريق، سار النبى وصاحبه، يعانيان ألم الطريق ووعثاء السفر. وليت الأمر اقتصر على ذلك، فمن وراء الركب المقدس، انطلق مشركو مكة يبحثون عن «محمد» فى كل الاتجاهات، ورصدوا مكافأة مبهرة -بمقاييس ذلك الزمان- لمن يدل عليه، إذ وعدوه بمائة ناقة. ظل النبى وصاحبه يتنقلان من جبل إلى جبل، ومن غار إلى غار، حتى أوشك المكيون على إدراكهما، فاهتز «أبوبكر»، وأيقن أنهما واقعان فى قبضة المشركين لا محالة، هنالك ربّت النبى على يديه بشموخ، وهو يقول: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟».

كذلك كان الألم فى رحلة الهجرة المباركة، لم يكن الأمر مقتصراً على معاناة الطريق، أو مطاردة المشركين، بل تعداه إلى ألم نفسى عميق وغائر فى نفس النبى، وهو الذى كان يحب مكة كل الحب، ويكره الابتعاد عنها. قبل تحرك الركب بلحظات وقف النبى ناظراً إلى مكة متأملاً جبالها وشعابها، وهو يقول: «والله يا مكة إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت». كان ألم فراق أرض الميلاد والنشأة والدعوة الأشد على النبى، صلى الله عليه وسلم. شعور قاسٍ أن يفارق الإنسان وطنه، والأشد قسوة أن يفارقه مضطراً. كان النبى محباً لوطنه، ويرى أن «حب الوطن من الإيمان». ولك أن تتصور إحساسه، صلى الله عليه وسلم، وقد وجد نفسه مضطراً إلى الهجرة من الأرض التى أنبتته إلى أرض لم يسبق له أن سار عليها بقدميه الشريفتين، ليعيش بين بشر لا يعرفهم، نعم اطمأن إلى نفر منهم فى بيعتى العقبة الأولى والثانية، لكنه لم يكن يعلم كيف سيستقبله الآخرون، خصوصاً أن المدينة حينذاك كانت تزدحم بأحياء اليهود، وعداء اليهود للنبى أمر معلوم بالضرورة.

وسط كل هذا الزخم من الألم والمعاناة، هاجر النبى، صلى الله عليه وسلم، مدفوعاً بالإيمان بالله والثقة فيه. وذلك الملمح من ملامح الرحلة المباركة يستحق التأمل، بينما كان النبى يسير مطارداً من المشركين أدركه سراقة بن مالك، وكاد يدل عليه، لولا أن رده الله تعالى (والله يعصمك من الناس)، لحظتها وعد النبى «سراقة» بملابس وأساور كسرى فارس، وكأنى بالرجل وهو يقول لنفسه: يعدنى بملابس وسوار كسرى وهو مطارد؟. لم يفهم «سراقة» وقتها معنى الإيمان والثقة بالله تعالى، حتى أدركه فيما بعد. إنه الإيمان الذى يخلق اليقين بأن نصر الله قريب مهما تكاثفت الغيوم. صلى الله وسلم على صاحب الذكرى الشريفة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف