مدبولي عثمان
المدرسة ليس بها أماكن خالية
في عام 1978 تلقي الأستاذ سعيد شكر مدير مدرسة الباجور الثانوية بمحافظة المنوفية خطاب توصية من وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت الدكتور حسن محمد إسماعيل. يحمل تأشيرة بقبول نجل أحد الأثرياء بالمدرسة نقلاً من إحدي المدارس الخاصة. يومها كان التعليم العام الحكومي وحتي صدور قوانين الانفتاح الاقتصادي عام 1974 هو الأفضل وكانت المدارس الخاصة يدخلها الفاشلون دراسياً من أبناء الأثرياء لتكون الباب الخلفي للتسلل إلي المدارس الحكومية عبر النقود والنفوذ والمحسوبية.
ويروي أحد شهود الواقعة أن الطالب دخل المدرسة برفقة والده الثري وصاحب النفوذ. مختالين بسيارتهم الفاخرة وتدعهم تأشيرة واضحة من الوزير نصها " القبول فورا" ولكن كل ذلك لم يهز مدير المدرسة ورفض قبول الطالب. وعندما رأي دهشة الوالد وابنه أخذ منه الطلب وكتب عليه بالنص: "المدرسة ليس بها أماكن خالية". ونظر لصاحب النفوذ قائلاً: "خلي الوزير يجيب له كرسي وترابيزة وييجي يدخله المدرسة" يومها كان المدير رجلاً بمعني الكلمة. وصل إلي موقع القيادة بالكفاءة ويستمد قوته من مسيرته المهنية المشرفة. وبالتالي لا يخضع لإرهاب أو ابتزاز أي مسئول أعلي منه حتي ولو كان الوزير بعكس ما يحدث حالياً في غالب الأحوال حيث يعاني غالبية مديري المدارس من سطوة بعض المسئولين في المديريات والمحافظات وفي ديوان عام الوزارة ويتعرضون لضغوط بعض نواب البرلمان.
ويحسب للوزير الدكتور حسن إسماعيل أنه لم تأخذه العزة بالاثم وينكل بمدير المدرسة أو يسلط عليه بعض زبانية الوزارة.
أسرد تلك الواقعة التي لا تبعد عنا سوي "39 سنة" ونحن في بداية العام الدراسي كي أؤكد علي ضرورة العمل بجدية لاستعادة التعليم العام الحكومي "المدرسي والجامعي" عافيته والتي فقدها أمام زحف التعليم الخاص الذي يغلب عليه الطابع التجاري ويركز غالباً علي المكاسب المادية. وتلك الضرورة تفرضها اعتبارات كثيرة أهمها أن التعليم الحكومي العام هو القناة الأساسية لغرس الولاء والانتماء في عقول وقلوب التلاميذ والطلاب. وباعتباره البوابة الرئيسية لحماية الأمن القومي بتخريج شباب مؤهلين وقادرين علي المشاركة في نهضة الوطن وحمايته.
التعليم العام المكان الأساسي للحفاظ علي القيم والتقاليد والدين والأخلاقيات لمجتمعنا. وقد اعترف بذلك علماء الحملة الفرنسية في الكتاب الموسوعي "وصف مصر" الصادر عام 1809 فجاء في الجزء الأول من الطبعة العربية الصادرة عام 1979 ص 64 النص التالي: "من النادر أن تري مصريا يتحمل بنفسه مشقة تعليم طفله. فيرسلون أبناءهم إلي المدارس. وتقوم الأمهات بإرسال وجبات إلي أطفالهن الدارسين. ويقتسم الأطفال طعامهم مع زملائهم المعوزين وهذه العادة تنبع من معتقدات حقة سائدة عند كل المسلمين. فبهذه الطريقة يتعلم الناس منذ طفولتهم كيف يصبحون خيرين. وكيف تنمو مع نموهم هذه الميول الخيرة التي تحض عليها مبادئ الدين. ومن هنا تسود المساواة المطلقة فهم لا يعرفون ذلك التمايز الذي يعود إلي الأ صل والمنشأ. بل إن الثروة نفسها ليس لها في هذا الصدد إلا ميزة طفيفة".
استرداد التعليم العام المدرسي والجامعي عافيته يتحقق أولاً بتوافر الجدية والإرادة لاعتبار التعليم مشروعاً قومياً يجب أن تجند كل أجهزة الدولة لتنفيذه وثانياً بتأهيل المعلمين دراسياً وتكليفهم وظيفياً مع منحهم المرتبات التي تكفيهم. وثالثاً بوضع مناهج متطورة في كافة المراحل الدراسية تتفق مع قيمنا الدينية وبيئتنا الاجتماعية وتعمل علي تنمية التفكير الإبداعي بعيداً عن الحشو والحفظ. ورابعاً توظيف المنتج التعليمي في تنمية وتطوير المجتمع.