الأهرام
د. هالة مصطفى
ما بعد هيومان رايتس
مازالت تداعيات تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش ضد مصر مستمرة, والأرجح أنها ستظل كذلك فترة أخرى مقبلة, فى ضوء ما زعمه بوجود عمليات تعذيب ممنهجة فى السجون المصرية وفيما سماه مراكز الاعتقال منذ عام 2013 ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية, التى تختص بالنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية, معتمدا على شهادات تسعة عشر معتقلا وأسرهم فضلا عن لقاءات مع بعض ممثلى جمعيات حقوق الإنسان المحلية, وهو ما دعا وزارة الخارجية فى ردها السريع عليه, لاعتباره حلقة جديدة من حلقات التشويه المتعمد يقوم على الانتقائية الى اختيار مصادر المعلومات واللجوء إلى كيانات (المقصود بها فى الغالب جماعة الإخوان) معروفة بانحيازها ضد الدولة المصرية.

يُذكر أن هذه المنظمة, التى يتسع نشاطها لمراقبة حالة حقوق الإنسان للأفراد والجماعات أينما يوجدوا وكل ما يتعلق بالحريات المدنية, وفى مقدمتها حرية التعبير, إلى جانب اهتمامها بقضايا التعذيب وجرائم الحرب, قد تشكلت فى أواخر الثمانينيات من اندماج مجموعة من المنظمات الحقوقية بدءا من منظمة «هلسنكى ووتش» التى تأسست فى 1978 وكانت مهمتها الأساسية تتبُّع مدى التزام الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية وقتئذ بالمعايير العالمية لحقوق الإنسان وفق ما أقرته اتفاقيات هلسنكى, مرورا بمنظمات الأمريكيتين وآسيا وإفريقيا والشرق الأوسط ووتش, وهو ما جعل نطاقها الجغرافى متسعا إلى أقصى درجة وأعطى لها ثقلا دوليا يفوق بالطبع كل تلك المنظمات الفرعية السابقة عليها, وقد اختارت نيويورك مقرا لها إلى جانب مكاتبها المنتشرة فى أغلب دول العالم, ولكونها منظمة غير حكومية, فالمفترض أنها لا تتلقى تمويلا من الحكومات, وإنما تعتمد على تبرعات الأفراد أو الشركات, ولكن هذا لا يمنع عمليا أن تقف بعض الحكومات أو أجهزة مخابراتها وراء عمليات التمويل بصورة غير مباشرة, لذلك فهى كثيرا ما تُتهم بتسييس التقارير التى تُصدرها سنويا عن هذا البلد أو ذاك, خاصة أن بعضها قد يتزامن مع استهداف دولة معينة من قبل الولايات المتحدة تحديدا لقرب المنظمة من الخارجية الأمريكية, وبالتالى فإن مسألة الاستقلالية والمهنية باتت موضعا للتشكيك فى نزاهتها, ولجدل مستمر بين مؤيديها ومعارضيها.

رغم ما سبق, ورغم أن هيومان رايتس لا تملك سلطة إلزامية على الدول, وإنما مجرد توصيات, فإن لها قوة تأثير على الرأى العام الدولى لا يمكن إنكارها, وكذلك داخل دوائر صناعة القرار الأمريكي, وتستطيع إحراج أى حكومة بإيجاد حالة سلبية تجاهها, وهذا الجانب هو ما يهم مصر أو ما يجب أن يُوضع فى الاعتبار عند التعامل مع هذه المنظمة تحديدا.

صحيح أنها ليست المرة الأولى التى تُصدر فيها تقريرا سلبيا عن الحالة السياسية المصرية, فقد تماثلت تقاريرها تقريبا منذ فض اعتصامى رابعة والنهضة, ولكن المُقلق هذه المرة هو توقيته , إذ أتى بعد تقرير مشابه صدر عن لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة, وإن كان بلغة أقل حدة, وتصريحات لاحقة لرئيسها الأمير زيد بن رعد تحمل المعانى نفسها, وكذلك قبيل حضور الرئيس عبد الفتاح السيسى اجتماعات الجمعية العامة ولقائه نظيره الأمريكى هناك, بل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المصرية, فضلا عن تزامنه مع حملة هجوم واسعة على مصر فى الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية, التى أعطت اهتماما ملحوظا للتقرير, إضافة إلى الكونجرس وهو على أعتاب إقرار الاعتمادات الخارجية للعام الجديد, والمُقترح فيها تخفيض المساعدات العسكرية لمصر بقيمة 300 مليون دولار والاقتصادية بـ37 مليون دولار بعد أن تم بالفعل اقتطاع وتجميد أجزاء منها فى أغسطس الماضى تحت دعوى انتهاكات حقوق الإنسان والتضييق على المجتمع المدنى.

باختصار, التوجهات السائدة الآن فى واشنطن لم تختلف كثيرا عما ساد خلال فترة الإدارة السابقة لباراك أوباما, التى عُرفت بمواقفها السلبية من 30 يونيو ودفاعها عن حكم الإخوان, الذى رأت فيه نموذجا للحكم الإسلامى المعتدل على غرار النموذج التركى الذى أُريد تعميمه فى الشرق الأوسط, اعتقادا منها أو توهما بأن ذلك يؤدى إلى احتواء الجماعات المتطرفة وإبقاء عملياتها الإرهابية بعيدا عن الدول الغربية.

هذه الرؤية مازالت حاضرة فى الذهنية الأمريكية حتى بعد تولى دونالد ترامب السلطة وإعلانه عن نيته إدراج الجماعة على قوائم الإرهاب, ولكنه هُزم أمام مؤسسات بلاده التى رأت عكس ذلك, وتلك نقطة التقاء مع منظمة هيومان رايتس, التى لعبت دورا مؤثرا للإبقاء على الإخوان خارج هذه القوائم, كما أن جزءا أساسيا من تقريرها المشار إليه يرتبط بهم (أى بالإخوان) دون النظر إلى تصنيف مصر لهم كجماعة إرهابية بعد عمليات العنف التى قاموا بها أو حرضوا عليها على مدى الأعوام الماضية.

إن هذا الاختلاف فى توصيف الجماعة سيظل مسببا لفجوة كبيرة بين الجانبين المصرى والأمريكى وهو جوهر المشكلة, وحسمه سيمثل جانبا رئيسيا للرد على هذا التقرير أو غيره, ولن يكون ذلك إلا من خلال الأدلة والوثائق التى تثبت صحة الموقف المصرى.

أما الجانب الآخر, فيختص بأسلوب التعامل مع مثل هذه التقارير, ليس بحجب مواقعها, فتلك أساليب تجاوزها الزمن وجلبت مزيدا من الانتقادات, كان آخرها ما عبرت عنه صراحة وزارة الخارجية الألمانية كممثل عن الدول الغربية إجمالا, ولا بمجرد الإنكار أو كيل الاتهامات للمنظمة حتى مع التسليم بأن معلوماتها مغلوطة, لأن ذلك وحده لن يُقنع المجتمع الدولى, فأى رد يجب أن يشتمل على المعلومات الصحيحة الخاصة بكل حالة على حدة من تلك التى وردت بالتقرير, وهو أمر منوط بالأجهزة الرسمية المعنية, وليس هناك ما يضير فى الإعلان عن بعض التجاوزات والتحقيق فيها, فهذا يحدث فى جميع الدول كبيرة كانت أو صغيرة, كذلك ليس هناك ما يمنع من مراجعة بعض بنود قانون الجمعيات الأهلية, الذى كان بدوره موضوعا آخر لنقد الأوضاع السياسية وحال الحريات, كما أن إصلاح بعض الأمور فى الداخل سيكون أكثر جدوى وفائدة من الاعتماد على شركات العلاقات العامة, التى تأكد محدودية دورها, المهم أن يؤخذ كل ما يُكتب عن مصر بجدية ويُفند بعيدا عن الانفعالات الوقتية, لأنه هو الذى يصنع فى النهاية صورتها بالخارج.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف