المصريون
جمال سلطان
في الحساب السياسي لوفاة مهدي عاكف
وفاة القيادي البارز بجماعة الإخوان والمرشد العام السابق لها محمد مهدي عاكف أمس كان الحدث اللافت والذي أثار الكثير من الجدل والغضب أيضا ، حتى بين صفوف خصوم الإخوان ومعارضيهم ، خاصة وأن وفاة الرجل جاءت وهو سجين حيث يخضع للعلاج في مستشفى قصر العيني بتنسيق مع مصلحة السجون لأنه يعاني من عدة أمراض عضال جعلت حياته مهددة بالموت المحقق في الأشهر الأخيرة ، إضافة إلى كبر سنه حيث كان على مشارف التسعين من عمره (89 عاما) ، وهو الأمر الذي نظر إليه على نطاق واسع بأنه قسوة مفرطة وغير مبررة من الجهات الأمنية تجاه رجل لا يمثل أي خطورة تذكر حيث يتحرك بصعوبة بل ويتنفس بصعوبة ، وكان يسهل وضعه في بيته قيد الإقامة الجبرية .
في أي تقدير سياسي للمشهد وتوابعه لا يوجد أدنى شك في أن النظام السياسي خسر في تلك الواقعة ، خسر على المستوى السياسي والإنساني والأخلاقي أيضا ، فلا يوجد أحد يمكنه التعاطف مع حبس شيخ طاعن في السن بهذا الشكل ومصاب بالكثير من الأمراض العضال منها السرطان على ذمة قضية سياسية ، ولو كان هناك "عقل سياسي" خبير يدير الشأن العام في البلد لكسب النظام الكثير بإطلاق سراح مهدي عاكف ووضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله ، وكانت ستحسب تلك اللفتة للنظام على المستوى الداخلي وعلى المستوى الدولي أيضا ، ولكن لأن السياسة ماتت تقريبا في هذا البلد ، وأصبحت الرؤية الأمنية الصارمة وشديدة الخشونة هي التي تقود الأحداث وتعالج المواقف ، كان من الطبيعي أن يخسر النظام بشكل سهل ومجاني موقفا كان من السهل أن يربحه ويستعين به ، خاصة في مواجهة أزمة دولية متصاعدة تندد بما يجري في السجون المصرية وتصفها بأنها سلوكيات وحشية وتعذيب منهجي .
مهدي عاكف أحد الرموز المؤسسة لجماعة الإخوان ، منذ عهد الملك فاروق ثم عبد الناصر ثم السادات ثم مبارك ثم المجلس العسكري ثم مرسي ثم السيسي ، وقضى فترات طويلة من عمره في السجون على خلفية قضايا سياسية متعلقة بنشاط الجماعة ، وكان ـ رحمه الله ـ من أكثر قيادات الجماعة إثارة للجدل ، نظرا لصراحته وأسلوبه "الشعبوي" في الحوار ، والذي تسبب له في مشكلات كثيرة ، حتى داخل الإخوان ، وكان يبدو واضحا من تعليقاته وحواراته ضعف الملكة السياسية عنده والعفوية وسوء تقدير مآلات الكلام ، رغم طول عهده بنشاط الجماعة ، ولكن خبراته التنظيمية كانت أهم فيما يبدو ، كما أن أعضاء الجماعة يحسبون له تضحياته الكثيرة على مدار العمر ، وثبات موقفه رغم توالي السجون وسنواتها الطويلة ، وهذا الأمر يمثل عنصرا مهما للغاية عند الإسلاميين بشكل عام لتقييم قياداتهم ورموزهم ، بغض النظر عن الإنجازات السياسية أو الفشل فيها ، فمسألة الثبات والصلابة في السجون لها سحر خاص عند الإسلاميين ، وغالبا ما كان يتم تقديم أشخاص للقيادة ـ رغم ضعف كفاءتهم ـ بسبب هذا المعيار وحده .
جنازة مهدي عاكف رحمه الله كانت أشبه بجنازة مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا ، حيث منع الأمن حضور الجمهور ، واقتصر الأمر على أربعة أشخاص من أسرته ، وهو نفس ما حدث مع البنا تقريبا ، والحقيقة أن منع الجنازة هو إشارة سلبية أخرى من النظام ، لأنها تفسر ـ بداهة ـ على أنها قلق من جماهيرية الجنازة ورمزيتها في اختبار الشعبية والشارع ، وهو نوع من التوتر السياسي الذي ما زال يربك القرار السياسي الحالي ، ويخيفه ، لدرجة أن مسجد رابعة العدوية في قلب القاهرة ـ على سبيل المثال ـ ما زال حتى الآن مغلقا ولا يسمح بالصلاة فيه ، رغم أن الأحداث التي وقعت به كانت قبل أكثر من أربع سنوات ، ولا يوجد أي مبرر منطقي يفسر سبب غلقه ومنع الصلاة فيه حتى الآن .
وفاة مهدي عاكف بتلك الحال خدم ـ سياسيا ـ جماعة الإخوان ، لأنه سيتحول إلى رمز جديد للمظلومية السياسية ، وستستخدمه الجماعة ـ حتما ـ في تحفيز شبابها لمواصلة الصدام ورحلة الغضب التي تبدو حتى الآن بلا أفق سياسي مفهوم ، وفي النهاية تضيف الحادثة تعقيدات جديدة للأزمة السياسية التي تعصف بالبلد ، لأنه من الواضح أن الأفق السياسي وأفكار الخروج من نفق الأزمة منعدم ، ليس عند الإخوان وحدهم ، بل عند النظام نفسه أيضا .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف