الأخبار
يوسف القعيد
يحدث في مصر الآن - جدل الحضور والغياب
في الساعة السادسة والنصف من مساء أمس السبت، ذكري ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل، أقيم احتفال بالمسرح الصغير بدار الأوبرا لمؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية. لتقديم جائزة هيكل للسبق الصحفي والتحقيق الاستقصائي، أول احتفال يقام بعد رحيل هيكل.
والمؤسسة ترأسها السيدة هدايت تيمور، رفيقة درب وزميلة مشوار وقرينة رحلة الأستاذ هيكل. يتكون مجلس أمنائها من الدكتور علي هيكل - الدكتور أحمد هيكل - الأستاذ حسن هيكل - السيدة هدايت علي هيكل.
والدعوة للاحتفال مصدرة بعبارة قالها هيكل عن مهنة الصحافة:
- »كيف يمكن للمهنة وفي هذه الظروف أن تكون آخر ريشة في آخر جناح يقدر علي الطيران في أجواء مضطربة، علها تكفر عن نصيبها من المسئولية باكتشاف ممر مفتوح إلي المستقبل»‬.
تمسك بالقلم والورق الأبيض أمامك يناديك ويغريك. لكن الحيرة تصيبك. لا تنسال الأفكار بذهنك، ولا تتسلل إلي يدك لتحرك قلمك وتحتار ماذا يمكن أن تكتب؟ وماذا يمكن أن تقول؟ محمد ابن عبد الجبار النفري، له عبارة دالة وعظيمة يقول فيها:
- كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
كنت أتصفح كتاب شاعر فلسطين العظيم، محمود درويش: في حضرة الغياب. وهو يصنفه بأنه نص. ووصف نص يعني أنه كتابة مفتوحة علي جميع الاحتمالات. قرأت الكتاب بصوت عال وباستمتاع نادر. أصبحنا نلهث وراء غياب الأحبة، ولا نحاول أن نستحضرهم أو نستعيدهم، أو نتذكر ما أضافوه لحياتنا.
عندما أكتب أنني حتي الآن لا أتصور أن الأستاذ هيكل لم يعد موجوداً بيننا. من المؤكد ألا يصدقني أحد. ومن حق من يقرأ هذا الكلام ألا يصدقني. ولكنه كلام حقيقي نابع من حبة القلب. فعندما يرن جرس الموبايل يخيل إليّ أنه هو المتحدث. وأنه سيطالعني بالسؤال السهل والبسيط والمختصر الذي كان يستهل كلامه مع من يحبهم من الناس به. كان يقول:
- إيه الأخبار؟.
ومهما قلت من الأخبار، أكتشف أن ما أعرفه أقل ألف مرة مما يحيط به هو. وانني ربما ذكرت العنوان. لكن التفاصيل وتفاصيل التفاصيل تكون عنده. أخجل لأنني أقف عند الشواشي. والشواشي لمن لم يعش في القرية المصرية آخر ما نراه مما نزرعه. وبالذات الذرة والقمح والقصب. لكن الرجل كنت أراه عند الأعماق، وما تحت الأعماق، يطرح أسئلته المشروعة علي ما يسمعه. وعلي ما نقوله له. والأهم من كل هذا علي ما يقرأه. فقد كان قارئاً عظيماً.
عندما كنت أزوره، أجد علي مكتبه كتبا، وعلي يمينه كتبا، وعلي يساره كتبا. وهي ليست مثل كتبنا، ربما كانت طبعات جديدة لكتب قديمة، أو كتب صدرت منذ سنوات بعيدة. أما هو فقد كان حوله دائماً آخر ما أصدرت المطابع ليس العربية فقط. ولكن العالمية من الكتب الجديدة.
كان يقرأ كثيراً جداً لأنه كان يؤمن بأنه لا توجد كتابة جيدة بدون قراءة أكثر جودة. ليس معني هذا أنه كان عندما يكتب يعيد إنتاج ما يقرأه. لكن القراءة كانت واحدة من صلاته بالحياة وعلاقته بها وتواصله معها. لم يكن يقرأ الكتب السياسية وحدها. لكنه كان قارئا جيد للنصوص الأدبية. وكان يسعي لمعرفة الأدباء، ليس المصريين فقط. ولكن الأدباء العالميين.
ذات مرة شاهدت فيلماً سينمائياً أعجبني جداً وسألته: هل يمكن أن تذهب إلي السينما؟ قال لي: ولم لا؟ وتهللت أني سأذكر له اسم الفيلم واسم دار العرض ليذهب إلي هناك. وأنا متأكد أنه لن يذهب بمفرده. فقد كانت هدايت تيمور شريكة عقل ورفيقة وجدان أكثر من كونها مجرد زوجة. ومن المؤكد أنها ستذهب معه. لكني اكتشفت أنه شاهد الفيلم الذي أريد أن أحدثه عنه عندما كان في لندن قبل أشهر من اتصالنا.
أقرأ لمحمود درويش:
- فنم هادئاً هادئاً إذا ما استطعت إلي ذلك سبيلاً/ ونم هادئاً في كلامك/ واحلم بأنك تحلم/ نم هادئاً ما استطعت/ سأطرد عنك البعوض/ ودمع التماسيح/ والأصدقاء الذين أحبوا جروحك/ وانصرفوا عنك حين جعلت صليبك طاولة للكتابة/ نم هادئاً قرب نفسك/ نم هادئاً/ سوف أحرس حلمك/ وحدي ووحدك في هذه الساعة/ الأرض عالية/ كالخواطر عالية/ والسماء مجازية كالقصيدة/ زرقاء، خضراء، بيضاء/ بيضاء، بيضاء، بيضاء.
ويكتب محمود درويش:
- الرحلة غاية/ والغاية إغواء المجهول/ والمجهول بعيد عنا وقريب منا/ يستدرجنا إلي الامتلاء بجهل لا حد له/ فنجتهد لإتقان جهل آخر/ لكننا قنعنا بالبحث عن معلوم يرشدنا إلي حياة ما في الحياة فصار المعلوم عصياً.
سلام عليك يوم ولدت ويوم تبعث حياً في أوراق الشجرة.
فبأي آلاء ربكما تكذبان.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف