الوطن
رجائى عطية
من الصعاب تولد القوة (3-3)
العبقريان مع محنة الصمم

.. تناول الدكتور الحفنى سيرة هذين العبقريين الفذين، فتحدث عن «بيتهوفن» (1770- 1827)، وعن طفولته المعذبة، ورحلته إلى فيينا، وإشراقة الفن لديه، وآخر عهده بمدينة بون، وعن آماله وآلامه، وعنه كإنسان، وحبه وعواطفه، ويطول فى سيرته الحديث، ولكن الذى يعنينا التوقف عنده هو تجربته مع الصمم، منذ «بداية الصمم»، حتى وصوله إلى قمة مجده رغم صممه المطبق.

كانت بداية زحف الصمم، حين أحس بيتهوفن ببوادره وتزايد ضعف سمعه منذ عام 1798، أى فى مقتبل عمره وهو فى السابعة والعشرين، وبدأت المظاهر بسماعه كما وصف فى البدايات أزيزاً وصفيراً، ولكنه شاء أن يخفى مصابه، فكان مخاطبوه ينسبون عدم رده عليهم إلى تشتت فكره وانشغال باله. ومع تفاقم المصيبة، حرص على الجلوس فى الصف الأول ليسمع الممثلين وأصوات الموسيقى، ثم بدأ يتعذر عليه سماع أعلى الأصوات والنغمات رغم جلوسه القريب، فلما اشتد زحف الصمم عليه، التزم الابتعاد عن الجماعات حتى لا يشعر أحد بصممه، وقد انعكس بؤسه فى رسالة حررها سنة 1801 لأحد أصدقائه المقربين، وفى ذلك العام خف الأزيز والصفير، ولكن السمع صار أسوأ حتى اكتملت المحنة بذهاب سمعه نهائياً، فانطوى عن العالم، ولكنه لم يبتعد عن فنه واستلهام عبقريته.

كان بيتهوفن قد بلغ قمة المجد عام 1814 وهو فى الرابعة والأربعين من عمره، عندما تمكن منه الصمم حتى اضطر للتوقف عن عزف البيانو أمام الجمهور، وإن استمر فى قيادة الفرق الموسيقية رغم الصعوبة التى تصل إلى الاستحالة مع سواه، فلما أطبق الصمم جعل يعتمد فى ضبط الإيقاع وانتظام قيادة الفرقة الموسيقية على رؤيته لحركة أقواس آلات الكمان ومتابعته انتظام مضارب الطبول.

وشاء الله أن يبعث فى ذلك العام أوبرا من مقطوعاته أنتجها من ثمانى سنوات سابقة، فلم تلاقِ وقتها حظاً، وهى أوبرا «ليونورا»، فإذا بها بعد ما يشبه الفشل، قد ظهرت من جديد باسم «فيديليو» فتقبل عليها الدنيا عند إعادة عرضها، ويُكتب لها النجاح والخلود، وتنتشر فى جميع المسارح الألمانية، وتغزو مسارح لندن وباريس والممالك الأخرى.

وكانت المعجزة الثانية، فى الأول من أكتوبر من ذلك العام (1814)، فقد ازدحمت فيينا بآلاف مؤلفة فى مؤتمر عام عقد بعد نفى نابليون وتنفس أوروبا الصعداء بتراجع ويلات الحروب، وإذا ببلدية المدينة تعهد إلى «بيتهوفن» فى هذه المناسبة، بتلحين نشيد «ساعة النصر» لهذا الاحتفال، ويتسابق العظماء والأشراف لحضور الاحتفال، وإذا بالنشيد يحقق نجاحاً باهراً، وتنهال الهدايا والتكريم على العبقرى.

وتعرض «بيتهوفن» إلى محنة نفسية جرحته، حين رفض القضاء إقرار وصية أخيه «كارل»، بأن يكون قائماً على صغيره الذى كان فى الثامنة من عمره، وشعر بيتهوفن بالإهانة مما لحقه، وأوشك من إحساسه بالإهانة أن يترك البلاد، لولا التفاف أصدقائه من حوله، إلى أن قضت المحكمة الاستئنافية لصالحه.

وتصادف فى عام 1818 أن نودى بتنصيب تلميذه المقرب الأمير «رودلف» مطراناً لإحدى المقاطعات النمساوية، فصنف بيتهوفن احتفالاً بهذه المناسبة مقطوعة موسيقية دينية قُيّض لها الخلود، وانكَبّ فى العام نفسه على تأليف «قداس خاص»، ولم يشغله ذلك كله عن الانكباب لتأليف «السيمفونية التاسعة» المعتبرة توأماً لهذا القداس، التى بلغ فيها بيتهوفن (الأصم) ذروة الفن وقمة المجد، وقد ضم إلى خاتمتها أنشودة غنائية جماعية من نوع الكورال، فلحن قصيدة الشاعر الكبير «شيللر» «إلى السعادة» فى ألحان تنطق حقاً بالسعادة. أحس بها بيتهوفن فى أعماقه، فأخرجها رغم صممه أنغاماً وألحاناً.

واحتضن بيتهوفن فى ذلك الوقت الموسيقار «فرانزليست» عبقرى العزف على البيانو، وصَنَّفَ أثناء اشتغاله بالقداس الأخير والسيمفونية التاسعة ثلاث مقطوعات من نوع «السوناتة»، وبلغ فيها ذروة الفن وقمة المجد. وفى السنوات العشر الأخيرة من عمره، أطبق عليه الصمم إطباقاً تاماً، حتى تعذر على هذا العبقرى الفذ التفاهم مع أهله وأصدقائه إلّا كتابةً.



وحدثنا الدكتور الحفنى عن سيرة «سميتانا» (1824- 1884)، فأشار إلى عبقريته التى بزغت فى أسرة عصامية، وحبه الأول وبواكير تأليفه، وانطلاقاته فى التأليف، والعوارض التى قابلته متمثلة فى نكبات الأسرة وأثرها على إنتاجه، وإنتاجه فى جوتابورج بين الدموع والابتسامات، وما صنفه من أوبرات، وما لاقاه من نكبات القدر، حتى انطفاء الشعلة.

وبينما كان «سميتانا» يخوض شبه حرب مع حُساده ومع الرجعيين من خصومه، الذين رموه بأنه أصبح خطراً على فن بلاده بما أدخله من تجديد، شهدت به أوبرا «داليبور» ثم أوبرا «ليبوسا»، التى نهج فيها نهجاً قومياً سمت فيه موسيقاه إلى المثل الأعلى الذى يعيش فيه الفنان، ومن بعدهما أوبرا «أرملتان» التى اعتبرت موسيقاها من أروع ما أبدعته عبقريته، نكبه القدر بزحف الصمم الذى جعل يزداد ويطبق عليه حتى إنه قضى السنوات العشر الأخيرة من حياته فى صمم تام.

اعتقد الناس بعد إطباق الصمم عليه أنه لم يعد أمامه إلّا الاعتزال وانتظار الموت، إلّا أن هذا العبقرى انقطع للتأليف الآلى بعيداً عن الغناء الأوبرالى وما كان يلقاه فيه من نكير النقاد المعارضين، وأقبل على التأليف السيمفونى بنشاط عجيب، حتى أتم فى خمس سنوات إنجازاً فنياً بالغ الروعة، لا يتاح إلّا لعبقرى ناضج اكتملت له كل قواه، وفى هذا الإنتاج السيمفونى الذى بلغ القمة، أبرز «سميتانا» الطابع الدرامى الحقيقى فى ألحان ساحرة وفى باقة من التوزيع الآلى منقطعة النظير، وتجلى ذلك فى السيمفونية السداسية «وطنى» التى تألفت من ست قصائد سيمفونية، وفى «من حياتى»، وهى رباعية تعتبر خاتمة مؤلفاته فى عام حافل بالإنتاج بعد صممه التام، هذا الصمم الذى تحداه، فكانت قوته فى الخلق والابتكار أقوى من فداحة مصابه، وأثبت أن إرادة العبقرية أقوى من أى عائق!

تحالف العبقرية مع الإرادة ومع قوة الداخل والأعماق

ما كان لهاتين العبقريتين أن تتجاوزا إعاقة الصمم، وتبدعان هذا الإبداع الموسيقى، لولا تضافر هذه العبقرية مع الإرادة، ومع قوة الداخل والأعماق. قوة الداخل قوة هائلة، ونهر متدفق داخل الآدمى، تمتزج فيه قوة العقيدة مع الإيمان بالنفس وما فطرت عليه ورغبتها فى تأدية رسالتها.

من المحال على الآدمى أن يعيش بغير رجاء يأمله أو يتوقعه أو يتمناه، فحياته من عالمين لا غناء لأحدهما عن الآخر: «عالم الآمال»، وهو عالم أساسى للآدمى يشحنه بوقود الحياة، ويلزمه لاستمرار رغبته فى الحياة من التفاؤل والاستبشار وحُسن الظن، و«عالم الواقع» بخشونته أحياناً، وبعوائقه ونكباته ومعضلاته، فإذا كان هذا هو شأن كل آدمى، فإن العبقرية تبلغ ذراها فى التآلف مع هذين العالمين المتقابلين، تحدوها موهبتها الفذة، وقدراتها النادرة.

ما كان لهذين العبقريين أن ينهضا بما نهضا به من إبداعات موسيقية، رغم عائق الصمم، إلّا أن تكون العبقرية قد بلغت عندهما أعلى ذراها، وإلّا أن تكون الإرادة قد استلهمت من هذه العبقرية ما أمكنها أن تمضى به رغم كل العوائق، لتقدم للإنسانية زاداً عظيماً رفيعاً لم ينهض بمثله أسوى الأصحاء!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف