الأهرام
محمد صابرين
أشباح الحرب الباردة تطل على المنطقة!
«النوايا الحسنة» وحدها لا تكفي، وأغلب الظن أن «توازن المصالح» ليس كافيا بحد ذاته مثلما رأينا من تجربة الرئيس ميخائيل جورباتشوف الفاشلة، والآن نعلم أن «توازن القوي» هو «السر المعلن» لفهم كيف يدار العالم الحقيقى منذ قرون عديدة! وأحسب أن علينا أن نتوقف عن رؤية العالم مثلما نتمني، وأن نرى العالم كما هو «بقبحه وأساليبه، وأن نختار نحن أيضا «مصر أولا». وفى الوقت ذاته علينا أن نتقن اللعبة الأمريكية والغربية، والتى خلاصتها «تكلم بلطف» وتصرف بخشونة، ومن هنا علينا أن ندرك أن التجمل من قبل الآخرين لا يعنى «الموقف الحقيقي» ومثلما تحذرنا «القفشة الشعبية» من الانشغال «بشوف العصفورة فين»؟ عن «السرقة» أو عملية النصب علينا، فإن الرأى العام العربى والمصرى بل والنخبة عليها ألا تنخدع «بالشعارات البراقة»، وأن تركز على «الأفعال على الأرض». وهنا سنحاول أن نرصد بعضا من الحركة وسيناريوهات جديدة قديمة يتم الحديث عنها فى «الأروقة الأمريكية».

وأول ما يستوقف النظر أن مراكز الأبحاث الأمريكية تحاول رسم صورة لما هو قادم، ومن هنا فإن الباحث الأمريكى الشهير توماس رايت يقدم رؤية فى كتابه الجديد «كل التدابير ماعدا الحرب» صراع القرن الحادى والعشرين ومستقبل القوة الأمريكية. ويرسم توماس رايت فى كتابه الصادر عن معهد بروكنجز صورة المنافسة الجيوسياسية فى القرن الحادى والعشرين بعد عقدين من التعاون غير المسبوق بين الدول الكبري، ويرى أن المنافسة قد عادت، وأن روسيا والصين تسعيان إلى إيجاد مجالات نفوذ، وفى المقابل هناك شكوك حول التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على نظام دولى ليبرالي، ويكشف رايت «لماذا انتهت فترة ما بعد الحرب الباردة، والتى تميزت بنوع من التقارب. وكيف تستخدم القوى الكبرى الآن «عملية الاعتماد المتبادل» للحصول على ميزة استراتيجية على منافسيها. ويجادل رايت بأن القوى العظمى جميعها تسعى لتجنب «حرب كبري» ما بين بعضها البعض، وإنما سوف تلجأ إلى جميع التدابير الأخري، بما فى ذلك الحرب السيبرانية والحرب الاقتصادية والحرب بالوكالة والدبلوماسية القسرية.

إلا أن هذه محاولة خجول لتجميل ما تراه الدوائر الأمريكية التى بات من المتعارف عليه الآن أنها «الدولة العميقة»، فالمؤسسات الأمريكية الفاعلة ترى أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتخلى عن «قيادة العالم»، أو بعبارة أخرى «الهيمنة على العالم»، ولا ترغب فى مشاركة أحد فى إدارته! وهنا فإن من المهم أن نرصد رؤية السيناتور تيم كين نائب هيلارى كلينتون فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، فربما تراجعت كلينتون بعد خسارتها إلا أن كين سيناتور ولاية فيرجينيا يبدو أن عينه على البيت الأبيض. فقد خرج بمقالة مهمة فى مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية المشهورة فى عددها الأخير منذ أيام، واختار لعنوان المجلة «عقيدة ترومان الجديدة.. الاستراتيجية الكبرى فى عالم شديد الترابط بقوة» ويشرح السيناتور الديمقراطى كيف أن الكونجرس الأمريكى منهمك بقوة فى مهمة كان يمكن أن تبدو «سريالية» منذ عدة سنوات، وهى تتعلق باستعراض الجهود الناجحة من قبل الحكومة الروسية للتدخل فى انتخابات الرئاسة الأمريكية. ويقول: لايزال هناك العديد من الأسئلة التى تجب الإجابة عليها، وهذه الإجابات سوف توجد»!

ويذهب المرشح السابق لمنصب نائب الرئيس الأمريكى إلى صلب الأمر كله بشأن رؤية أمريكا للعالم، فهو يقول بعد حوالى 40 عاما من الحرب العالمية الثانية كانت للولايات المتحدة سياسة خارجية متماسكة إلى حد ما، ولقد أيدها الطرفان (الجمهورى والديمقراطي)، هذه السياسة عقيدة ترومان «رأت العالم كمنافسة ثنائية القطب بين الكتلة السوفيتية والكتلة التى تقودها الولايات المتحدة. وعندما انهار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، فقد فقدت عقيدة ترومان، ومع ذلك فإن بقايا هذه الاستراتيجية «لاتزال تشكل التفكير الأمريكي» لماذا؟. وهنا يجيب تيم كين بوضوح لأن أى إدارة أمريكية أخرى لم تتوصل إلى خطة شاملة «لتحل محلها» ويتهم كين ترامب بأنه ليس لديه رؤية استراتيجية واضحة مثل أسلافه المباشرين ـ أوباما وبوش الابن ـ، ومن ثم فإن السيناتور الأمريكى الطامح للرئاسة، والذى جرى الاحتفاء به يقدم رؤيته بضرورة صياغة «عقيدة ترومان جديدة» وهنا فإن أمريكا هى التى يعود فيها قسم كبير من نخبتها السياسية إلى تقسيم العالم إلى «فسطاطين» وإلى مفهوم «من ليس معنا فهو ضدنا»؟!

ومن الغريب أن يتزامن ذلك مع كتابات تتحدث عن «الامبريالية الجديدة»، ويرى المفكر الفرنسى تييرى ميسان مؤسس شبكة فولتير أن إشاعة الفوضى خاصة فى الشرق الأوسط جزء من ممارسات هذه الإمبريالية الجديدة. وينسب ميسان إلى الاستراتيجى الأمريكى توماس بارينت قوله «إنه لكى تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها على العالم، يتعين عليها شطره إلى قسمين: دول مستقرة (وهم أعضاء مجموعة جى 8 وحلفاؤهم) من جهة، ومن جهة أخرى بقية العالم الذى يعتبر مجرد خزان بسيط للموارد الطبيعية. وخلافا لسابقيه لا يعتبر بارينت الوصول إلى هذه الموارد مسألة حيوية بالنسبة لواشنطن، ويطرح بدلا من ذلك استحالة وصول الدول المستقرة إلى تلك الموارد الطبيعية، من دون خدمات جيوش الولايات المتحدة. ويضيف بارينت «لذلك من الضرورى أن ندمر بشكل منهجى جميع هياكل الدول فى خزان الموارد هذا، حتى لا يستطيع أى أحد يوما ما، أن يعارض إرادة واشنطن، أو يتعامل مباشرة مع الدول المستقرة. إذن تدمير هياكل الدول فى ذلك الخزان يعنى رميها فى الفوضي؟! هذه رؤية قاتمة أقرب إلى «الكابوس» منها إلى أى شيء آخر، إلا أن الفوضى الخلاقة لكوندوليزا رايس لم تزل تطاردنا، ولم يزل الشرق الأوسط يترنح فى الفوضي.

ويبقى أن مصر حريصة بكل الجهد الممكن على استعادة الاستقرار، والدولة الوطنية من بحر الفوضى الهائج. وتدرك القاهرة أن هناك «أصواتا ودوائر أمريكية لاتزال أسيرة» حقبة الحرب الباردة، ولاتزال ترى العالم من خلال «الهيمنة الأمريكية» بعد الحرب العالمية الثانية وإخضاع اليابان «بالقنبلة النووية»، وأيضا استفرادها بقيادة العالم بعد الحرب الباردة. إلا أن الشواهد كلها الآن تذهب إلى محاولات قوية لبزوغ نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب، ومن هنا فإن دعوة القيادة المصرية أمام الأمم المتحدة لإعطاء الأولوية لجهود «تسوية النزاعات» وتقديمها على منهج إدارة النزاعات تصب فى جهود إطفاء الحرائق.. كما أن مصر أعادت إلى الواجهة ضرورة حل القضية الفلسطينية والحل السياسى فى سوريا، وعدم تفتيت ليبيا، ومكافحة الإرهاب. هذه رؤية مصر فى مواجهة رياح الحرب الباردة الجديدة؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف