الأهرام
اسامة الازهرى
هل نحن فعلا قادرون؟!
دخل الإنسان المصرى خلال السنوات الخمس الماضية فى حالة مزمنة من الكآبة، والإحباط، واليأس، والعزوف، وغرق فى أزمته النفسية المزمنة، ورأى مقدار الجهود المهولة المطلوبة منه لإعادة بناء الوطن وتشغيل ثرواته واجتياز أزمته، فاستعظم حجمها، وزادته شعورا بالعجز وعدم القدرة على النجاح، وكلما نظر إلى المتاح بين يده من الإمكانات ازداد شعورا باليأس، لأن عنصر النجاح فى الحقيقة لا يرجع إلى قلة الإمكانات ولا إلى كثرتها، بل فى مقدرة الإنسان على البقاء فى حالة عالية من اللياقة النفسية تجعله قادرا على أن يأخذ القرار بالاستنفار وتحدى الأزمة.

والأمم المحيطة بنا عبرت على أزمات أشد فداحة بكثير من أزماتنا، خصوصا حالة الألمان واليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، وقد خرجت كلتاهما من الحرب مدمرة ماديا ومعنويا، وقد دمرت مدنها ومرافقها ومبانيها ومؤسساتها، وقتل منها مئات الألوف، وتركت الحرب من ورائها مئات الألوف من المصابين والمشوهين وذوى العاهات، وانتهكت أرضها وتاريخها، وانتهكت ثقة الإنسان هناك فى ذاته، وثقته فى مقدرته على اختراق الأزمة.

ورغم هذا فقد كان المعول على مقدرة هذا الإنسان فى أن يتجاوز ذلك كله، وأن يستنفر نفسه لاختصار جهود جبارة تحتاج إلى عشرات السنين، حتى يقفز لتحقيقها فى سنوات معدودة، ولاشك فى أن هناك أجيالا قد طحنت تماما فى مرحلة إعادة التأسيس، لكنها تركت الراحة للأجيال التالية لها.

إننى أتصور أن شعب مصر العظيم وجيشه العظيم ومؤسساته العريقة فى حالة شديدة الشبه بحالتهم فى الفترة السابقة على حرب أكتوبر المجيدة، وأن الجهود الجبارة التى تحتاج إلى عقود وسنوات من العرق والتعب والمعاناة والسهر لابد من ضغطها واختصارها وإنجازها فى سنوات معدودة.

ولذلك فهناك دلالات كثيرة فى انتصار أكتوبر، تشتد حاجتنا إلى رصدها، والتنقيب الجاد من خلالها عن الجوهر الأصيل للإنسان المصري، الذى تراكمت عليه أطباق من الفقر والإجهاد النفسي، والتعقيد الاجتماعي، والسلوكيات العليلة، والنفسية المتأزمة المكتئبة، فجعلت حقيقة شخصيته متوارية وراء كل هذه الحجب الكثيفة.

وربما ظل الإنسان المصرى يرزح تحت تلك الضغوط، حتى تضيق نفسه، ويظلم عقله، وتضيق الدنيا عليه بما رحبت، حتى تأتى لحظات فاصلة، يستنفر فيها طاقته لينفض عن نفسيته كل تلك الأكوام من الهموم.

ومثال ذلك فى حرب أكتوبر ما ذكره الفريق سعد الدين الشاذلى فى مذكراته، من أنه عندما تولى رئاسة أركان القوات المسلحة، وجد أننا لكى نعيد بناء الجيش المصرى وتسليحه وتدريبه، للوصول فقط إلى حالة التساوى مع قوات العدو، مما يتيح لنا أخذ القرار بخوض الحرب فإن هذا المجهود الشاق يحتاج منا إلى ثلاثين سنة، فقط للوصول إلى حالة التساوي، فضلا عن التفوق الذى يجعل النصر فى الحرب معقولا أو راجحا، فى حين أن الحاجة بالنسبة لوطننا العظيم وجيشنا العظيم كانت ملحة وماسة لخوض الحرب فى مدة لا تزيد على ثلاث أو أربع سنوات.

وربما خرج الإنسان من هذه اللمحة بيأس هائل من إمكان تحقيق شيء، نظرا لضخامة التحدي، وعدم تصور إمكانية ضغط المهام والأعمال التى تستغرق ثلاثين سنة فى مدة قياسية لا تزيد على ثلاث سنوات، ويكفى هذا الحاجز النفسى وحده لتحطيم أى بارقة أمل، تجعل الإنسان يقرر التحدي، ويستنفر طاقاته، ويشرع فى العمل الشاق المهول.

ولو كان الإنسان المصرى يجرى على المعتاد فى أمور الناس لازداد اكتئابا وإغراقا فى يأسه، ولانصرف تماما عن أن يأخذ القرار بتحدى نفسه وظروفه واقتصاده المتعثر، ومن هنا يبدأ انهزام الإنسان أمام نفسه، وهذه هوة وفجوة نفسية يصعب الخروج منها إذا غرق فيها.

لكن الذى حدث على أرض الواقع، وظهر فيه المعدن الأصيل الكامن للإنسان المصرى هو أنه قبل التحدي، واتخذ القرار، وانتصر بداخل نفسه قبل أن ينتصر فى ميدان المعركة، وأدرك مقدار التحدى المهول، لكنه أدرك أن همته وطاقته فوق حجم التحدي، رغم شدة فقر إمكاناته.

وكانت النتيجة أن جيشنا العظيم قد خاض معركة إعادة البناء، وقرر خوض المعركة، وبذل على مدى سنوات جهوده الخارقة لإعادة التأهيل والتسليح والتدريب والتخطيط، ثم خاض أمورا صعبة من التخطيط، وكيفية الحسم، واختراق تحصينات العدو العسكرية، واختراق دعايته المكثفة التى تريد أن يصدق الإنسان المصرى عن نفسه أنه عاجز ولا يقوى على اتخاذ القرار وخوض المعركة.

وقد أشار الفريق سعد الشاذلى إلى أن النتيجة الواقعية التى تحققت على الأرض هو التمكن من اخترق الحواجز النفسية، واتخاذ القرار بصناعة النصر، فتمكن هذا الإنسان النبيل من اختصار جهود الثلاثين سنة فى ثلاث سنوات.

والقضية القومية التى لابد من أن نتضافر على العمل فيها، هى إعادة نفض التراب عن هذا الهيكل العريق لنفسية الإنسان المصري، وإعادة صناعة الشخصية الوطنية المتماسكة، والثابتة نفسيا، والقادرة على اجتياز كل عوامل الكآبة والفقر، وهى قضية هذا العام وأعوام قادمة، وتحتاج من الأزهر والأوقاف، ووزارة التعليم، ووزارة الشباب، والتليفزيون المصري، وقيادات القنوات الفضائية الخاصة، وكتابنا الكبار، الأمناء على القلم، أن يجعلوا هذه القضية محور حديثهم، وأنشطتهم، وندواتهم، وأن تكون هى الهم العظيم الذى يتكبدون لأجله العرق والسهر، حتى تتدفق الدماء الجديدة إلى همة الإنسان المصرى ووجدانه الظامئ المتألم.

وأنا شديد الثقة فى هذا الإنسان العظيم، وفى مقدرته الخارقة على اجتياز الأزمة، وعلى الانتصار داخل نفسه قبل أن ينتصر على تحدياته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف