** لعل من المنطقي القول بأن المصري القديم صاحب أول ثقافة للانتظار امتدت جذورها وثوابتها ومعادلاتها فاضت مع فيضان الجد العظيم "النيل" لتصبح من السمات الأولي للمجتمع المصري ومشكلات نسيج الدقة في أداء العمل.. وإعطاء كل أمر ما يستحق من وقت حتي ينضج.. وفي نفس الوقت اللحاق بالموعد الملائم تماماً لإنجاز خال من السلق أو التشوهات.. لدينا مثال ملحمة بناء الأهرامات التي استغراق بناء الأول منها عشرين عاما أو يزيد.. هذا البناء المهندس "اللغز" الذي أبدعه المصري القديم ووضع في منظومته المزيج من الفلك والهندسة والتحنيط بل والإيمان بيوم البعث بعد الموت ما كان ليتم.. لولا الإعداد الدقيق والتقدير السليم والتجهيز المتكامل.. ثم الاختيار المناسب للبنائين من مهندسين وعمال وآخرين.. يكفي أن نفكر كيف نجح أبناء النيل في نحت الأحجار الضخمة ثم ابتكروا لها العجلات والحوامل لنقلها إلي الهضبة المقرر فيها البناء والتدرج الهرمي حتي القمة والتي توقف أمامها نابليون بونابرت حائرا.. مندهشا.. بجنوده عندما جاءوا ليغزو مصر بحجة البحث العلمي.. "وصف مصر فيما بعد" حاول بونابرت أن يوقف تدفق علامات استفهامه ضرب الهرم الأكبر ليسقط حجر واحد منه فقط.. وبطلقة مدفع أخري أصاب وجه أبو الهول "حورس الأسد المرابط لحماية سكان الأهرامات حتي يوم البعث".
** نعم تعلم المصري ثقافة الانتظار والصبر من علاقته مع الأرض التي يرويها النيل فكان يصلح أحوال الأرض.. يواظب علي ريها.. يراقف نمو الزرع.. يستعد للحصاد بالعتاد والأهازيج.. يقرن الحصاد دوما بالأفراح.. الزواج والاحتفالات.. ولا ينسي النيل بعروس حلاوة ترضيه وتجعله يفيض بالماء والخير.. يواصل العطاء حتي يستمر الناس بالمقابل في رحلة البناء والإنجاز.. يعيش المصري وأسرته مطمئنين في حمي النيل.. ينقل الفلاح حياته إلي الحقل.. يقضي فيه وأسرته وحيواناته أكثر مما يقضيه في منزله بالقرية.. وتجتذب الليالي القمرية.. الرجال للسهر والاحتفاء وأيضاً تبادل الحديث ذوق شجون.. وبمرور الوقت نشأ الناي والموال وجذبا اسماع الفلاحين والبسطاء.. ثم نخصص بعض الرواة في أداء الملاحم التي تتناول أبطال برزوا في الحروب والدفاع عن أرض الوطن.. وكانت هذه الملاحم من الإثارة.. إلي الدرجة التي قد تثير الانقسام بين الحضور في المعني أو الدوار للاستماع إلي الرؤي.. ينصر هذا ثم يعود ليمدح ذاك.
** وفي نفس الوقت اكتملت ثقافة الانتظار بانضمام الصبر إلي تكوين الضمير.. ورغم ان للصبر مزايا تحفيزية للتحمل والسعي إلي تجاوز الأزمات.. إلا انها أفرزت علي الجانب الآخر سلوكاً سلبياً يتمثل في عدم الاهتمام المناسب لعنصر الوقت والاكتفاء بترديد حكمة "الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك" علي خلاف كراسات المدارس ونمثل ذلك في ان مواعيد المصريين "خارج الفهم.. أو الخدمة.. أو الصلاحية" فهذا صديق يعدك بالزيارة بالليل أو بعد المغرب دون تحديد وقت.. وهذا آخر يحضر لك متأخراً وقد انتظرته في ظروف مناخية قاسية وربما عطلت أشياء تهمك.. يقابلك بوجه برئ دون أن يدرك بأن الأمر يستدعي الاعتذار.. ولا يكتشف ضرورة الوقت إلا إذا سافر للخارج أو تعامل مع الأجانب.. لأن التأخير هناك لعدة دقائق.. ينسف العلاقة من أساسها.
** وقد جاءتنا الفرصة الذهبية لاستعادة ثقافة الانتظار بمفهومها الإيجابي من خلال جدول زمني محدد يرتبط بالإنجاز.. وبعد أن عانينا ـ وما زلنا ـ من تعطل مشروعات مهمة.. وعدم استكمالها لعدة سنوات.. رغم ان انجازها في مصلحة الناس دون شك.. وحدثت المحاولة الكبري للتصحيح في تقديرنا.. خلال منظومة بناء قناة السويس الجديدة.. التي ساهمت في تمويلها أموال المصريين.. وأنجزتها سواعدهم في زمن قصير لم يتجاوز عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام.. ودخلت القناة الجديدة الخدمة لتؤكد للعالم ان مصر تستطيع.. وتحولت الأمور إلي جداول زمنية محددة لإنجاز المشروعات الكبري والمتابعة الفعالة لتعويض ما فاتنا تحقيقه من سنوات.. لقد حدد الانتظار هنا بالقدرة علي الإنجاز والالتزام بالتنفيذ الجيد المطابق للمواصفات.. وللأسف ما زال بعض المسئولين التنفيذيين الذين لم ينفضوا عن أنفسهم تصريحات وردية للتسويف إن لم تكن لمضيعة الوقت في سلوك بيروقراطي ينحدر من أيام عصور الظلام والجهل والتخلف.. يا ليت الحقائق تتقدم والشفافية تنتصر والمصداقية تعتمد.. حتي تنبت أرضنا الطيبة.. ثقافة إيجابية للانتظار.. تتوج بالإنجاز ورضاء الناس.