المصريون
د . حاتم حجاب
يحنن!
يُحكى أن زعيم دولة كبرى (وتقال أحيانا عظمى) زار دولة فقيرة من الدول التي تتوسط الدول الشرقية لبلاده، وكانت هذه الدولة، فقيرة دائما، شاكية ضيق ذات اليد أبداً رغم ما حباها ربها به من ثروات مادية وبشرية وأيضا ثروات يطلق عليها بعض الناس جيوبوليتيكية! وكانت هذه الثروات كفيلة إن أحسنت إدارتها وتم كف يد العابثين الفاسدين عنها أن تصنع لهذه الدولة فارقا في مستقبلها وأن تضعها في مصاف الدول التي ينتمي لها الزعيم الضيف، ولكن هكذا أرادت الدولة الفقيرة لنفسها، لا ما أراده لها أعدائها كما يدعي حكامها، إذ كانت في الشرق القصي من دولة الزعيم الضيف دول قوية قادرة بنت نفسها بإرادة من حديد، حتى أن دولة من تلك الدول صنعت سلاحين فتاكين يحطم احدهما الذرة ويفجرها، ويدمج السلاح الآخر الذرة فيوحدها وهما من أفتك الأسلحة وأكثرها تقدما وتقنية رغم ما تعانيه هذه الدولة من فقر وضغوط جعلت من يأكل ورق الشجر فيها مترفا بين أقرانه مرفها بين أقاربه ومعارفه على حد سواء...

ما يهمنا أن رئيس الدولة العظمى أراد أن يسير في شوارع عاصمة الرئيس المُضيف، المحروسة من كل عين حاسدة، ورغبة حاقدة، بآلاف من رجال الأمن الشداد، فكان أن تم تنظيم جولة له داخل شوارعها وبين طرقاتها. وكان أن رأى الرئيس الزائر سيدة عجوزاً تجلس بجوار أحد الأرصفة وقد بدا عليها بعض البؤس ومظهر أو مظهرين من مظاهر الشقاء الأبدي الذي لا يرحم، فرق قلبه لحالها وإنخلع فؤاده لمنظرها ومعه إنقلبت سحنة الرئيس المُضيف، ونظر نظرات شذرات إلى وزير أمنه وخازن داخليته بما معناه أن كيف أفلتت منكم هذه العجوز على هذا الحال لتفضح بمظهرها ما خفي عن مخبر الرئيس الضيف وحكومته. وسبحان من أودع نظرة الضيف ونظرة للمُضيف!

تمت الجولة وإنتهت الزيارة وعاد الرئيس الضيف إلى بلاده لكن منظر السيدة العجوز لم يفارق مخيلته فما كان منه إلا أن أخرج دفتر شيكاته الخاص به وكتب شيكا بمبلغ مليون وحدة من عملات بلده الخضراء. ويقول العارفون أنه إنما دفع المبلغ من حسابه الخاص كون دولته لا تسمح بتبذير أموالها، ولا تبديد ثرواتها، ولها رقباء أشداء، يقال لهم النواب، يمكن أن يعزلوه ويسجنوه ويصادروا أمواله إن هو أضاع قرشا واحدا من قروش دولته؛ وهو قرش أحمر اللون يقال له سنتاً على سبيل الدلع أو التفكه لا ندري.

قام سفير الدولة العظمى بتسليم الشيك إلى رئيس الدولة التي يخدم فيها وقال له بلهجة فيها آسى والم عميقين، وإستعطاف حقيقي باد في كل حروف كلامه: إن سيادة رئيس دولتنا يرسل هذا الشيك إليكم طالبا منكم أن تسلموه إلى السيدة العجوز التي قابلها في جولته معكم، أسفا أن هذا هو كل ما يستطيع لمساعدتها به!

أخذ الرئيس المضيف الشيك ونظر إليه نظرة ذات معنى، وإبتسم إبتسامة ذات مغزى، ثم ودع السفير، وفي الحال أمر برئيس وزرائه أن يأتي إليه، وقد كان. قال الرئيس المضيف لرئيس وزراءه، إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر أيما تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلناها أثناء جولتنا معا، وقد أرسل عبر سفيره إليها شيكا بمقدار نصف مليون من عملات بلاده الخضراء، فخذه حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج رئيس وزراء مسرعاً ليلبي رغبة رئيسه، وكان أن أمر وزير ماليته أن أسرع إليّ الساعة ولا تتأخر، فجاءه الوزير على عجل يكاد يغرق في عرقه، فقال له رئيس الوزراء بلهجة فيها من الآسى ما فيها: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر أيما تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها شيكا بمقدار ربع مليون من عملات بلاده تلك الخضراء، فخذه حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج وزير المالية مسرعا ولم يعقب، وكان أن وصل مكتبه في ربع ساعة، رغم انها في العادة مسيرة ساعة، وأمر بوكيل وزارته أن يأتي إليه، فوصل المذكور وهو غاية في القلق يقرأ قل أعوذ برب الفلق. قال الوزير: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها شيكا بمقدار مئة الف من عملات بلاده تلك الخضراء، فخذه حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج الوكيل لاهثاً يطلب التليفون (ويقال له في بعض البلاد هاتف، ولا مجال هنا لوصفه فهو عالي التقنية يصعب علينا تفسيره أو كيفية عمله) وكان أن ضغط بضع أزرار فسمع صوت مدير الشؤون الإجتماعية (ويقال لها التضامن من باب إشراك الناس في الخير) في الطرف الأخر يقول: تحت الأمر والخدمة، فقال الوكيل أن تعال إليّ في الحال وإلا فسوء المآل! فوصل المدير خلال دقائق يكاد قلبه أن يقف فرقاً، فقال له الوكيل: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها شيكا بمقدار خمسين الفا من عملات بلادنا (وكانت عملة عجيبة، يشبه إسمها في كتابته مؤنت كلمة "جن"،) فخذه حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج مدير الشؤون الإجتماعية مهرولاً ليصل مكتبه، وليستخدم التليفون (ويبدو أنه كان منتشراً بينهم بشدة) ليطلب رئيس قسم الشرطة يأمره أن يأتيه. وبعد أن جاء رئيس القسم إليه وسلم عليه قال له رئيس الأمن: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها مبلغ عشرة آلاف من عملات بلادنا (تلك العملة العجيبة، التي يشبه إسمها في كتابته مؤنت كلمة "جن"،) فخذه حالا وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج رئيس القسم لا يلوي على شيء حتى جاء مكتبه فأمر أحد ضباطه، وكان منهمكا في كتابة ما يطلق عليه "محضراً" أن يترك ما هو بين يديه وقال له: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها مبلغَ الفٍ من عملات بلادنا (تلك العملة العجيبة، التي يشبه إسمها في كتابته مؤنت كلمة "جن"،) فخذه حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج الضابط منطلقا إلى أحد مرؤوسيه وكان يسمى جاويشاً (وينطقها الأهالي شاويش) وقال له: إن سيادة الرئيس الضيف قد تأثر بحال السيدة العجوز (نطقها: الست العجوزة) التي قابلها أثناء جولته مع فخامته، وقد أرسل عبر سفيره إليها مبلغ عشرة من عملات بلادنا (تلك العملة العجيبة، التي يشبه إسمها في كتابته مؤنت كلمة "جن"،) فخذها حالا، وإذهب به إليها، ولا تتأخر عليها، علّها في حاجة إلى مال يكفيها ذلّ السؤال.

خرج الجاويش لينادي جنديا بائسا يقال له عسكري (ولو سمح الوقت لاسهبنا في وصفه) وقال له: الرئيس الضيف اللي كان هنا من يومين "باعت" الأهيف ده (وهو إسم يطلق على مفرد تلك العملة العجيبة، التي يشبه إسمها في كتابته مؤنت كلمة "جن"،) "للولية" العجوزة اللي قابلها لما كان بيتمشى مع فخامته...

خرج العسكري بتكاسل يجرجر قدميه حتى وصل إليها ووجدها على حالتها التي كانت عليها، فناداها: يا ست، يا ست، الرئيس الضيف باعت لك من بلده بيقولك "يحنن!"

إنتهت
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف