تعرض وزير الخارجية الأسبق والأشهر والمرشح الرئاسي السابق عمرو موسى في مذكراته لعصر عبد الناصر ، وشخصية عبد الناصر ، وكانت له رؤية نقدية واضحة لتلك الحقبة وهو يصفها بدون مواربة بالديكتاتورية ، كما ذكر أمورا مما تتعلق بسلوكيات الرئيس نفسه منها أنه كان يستحضر طعاما خاصا من سويسرا فيما يشبه "حمية" معينة كان يهتم بها ، وقال موسى أنه هو شخصيا كان شاهدا على ذلك أيام عمله في جنيف ، وهنا انفجرت موجة غضب ناصرية ضد الرجل ، وبدا أنه انتهك مقدسات لا يجوز لأحد أن يقترب منها ، ودخل في "المولد" أقلام وأصوات عديدة ، ونشرت صفحات كاملة في صحف قومية ، ومساحات وافرة في الفضائيات ، تهجو عمرو موسى وتتهمه في شرفه السياسي وفي مصداقيته وحتى في استوائه النفسي واتهامه بمرض العظمة والاعتداد الزائد بالنفس ، ووضح أن الهجوم على عمرو موسى كانت به أطراف مقربة من السلطة الحالية ، واستغلت موجة الهجاء الناصري له للنيل منه على خلفية اعتراضه على بعض السياسات الحالية وما تردد من أنه أحد الأسماء المحتملة لمنافسة السيسي .
في المبدأ ، ارتباط تيار سياسي بشخص حاكم كان خطأ ، لأنه يحمله كامل ما اتصف به الحاكم وعهده ، من خير وشر ، وكان الأولى أن يكون الارتباط بالفكرة والطموح السياسي ، كما أن الارتباط بالشخص يحول الانتماء له مع الوقت إلى ما يشبه "الوثنية السياسية" التي ترى فيها نصف إله أو نبيا من الأنبياء ، لا يجرؤ أحد على انتقاده ، وتتحول صوره إلى أيقونات يتبتل أمامها النشطاء ويستجلبون بها الأمنيات والأحلام في البيوت والمكاتب ، وما يحدث مع الرئيس الراحل عبد الناصر حتى الآن أمر لا يصدق في الحقيقة ، خاصة وقد خبر التيار الناصري أجواء الربيع العربي وأشواق الشعوب للحرية والكرامة مع الخبز والعدالة ، وخطورة أن يحكم الناس بأجهزة الأمن والاستخبارات المتعددة والخوف والمعتقلات وتأميم الصحف وغلق أبواب التغيير السياسي السلمي وسحق أي نشاط حزبي مستقل إلا حزب السلطة ، كل تلك من المعالم الأساسية لحقبة عبد الناصر ، ولا أعتقد أنها تصلح الآن لكي ينتسب إليها أحد أو ينتمي إليها فضلا عن أن يدافع عنها أو حتى يلتمس لها الأعذار .
لذلك لم أسترح لهذا الغضب المبالغ فيه ضد عمرو موسى وكأنه ينتقد رئيسا ديمقراطيا اتصف عهده بالتعددية والكرامة الإنسانية ورسوخ فكرة حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام بشكل عام ، وأعتقد أن التيار الناصري في حاجة جادة لمراجعة فكرية وإنسانية لمجمل الفكرة ، خاصة وأنها تسببت في إرباكات لا تليق بتيار ديمقراطي أو ثوري عربي في تلك الأيام .
فالتيار الناصري حتى الآن ـ على سبيل المثال ـ لم يتخذ موقفا واضحا وحاسما تجاه الجرائم المروعة التي يرتكبها بشار الأسد ضد شعبه ، وهي جرائم بدأت بالتوازي مع ثورة يناير في مصر والثورة التونسية أيضا ، شعب يبحث عن الحرية ، يتظاهر سلميا في الميادين ويهتف ويغني للحرية ، ولم يكن هناك لا داعش ولا قاعدة ولا حتى جيش حر ، فنزل الطاغية لحماية عرشه وملك أبيه بالدبابات والأسلحة الآلية تطلق الرصاص في صدور الشباب الذي يعني للحرية في الميادين ، حتى انفجر الوضع وانقسم الجيش وحدث ما حدث ، وحول بشار بلاده إلى أرض مقسمة ومحتلة ومستباحة لعشرات الجيوش والميلشيات ، ودمر البلاد وشرد العباد وجعلها أمثولة ، من أجل أن يبقى هو وعصابته على كرسي السلطة ، هذا الطاغية المجرم ، كيف يسكت عنه صاحب ضمير أو منتسب إلى الإنسانية ، فضلا عن أن يكون مواليا للربيع العربي وثورة يناير كما يقول الناصريون في مصر ، بل أنا أندهش جدا من معارضة الناصريين للسيسي في مصر ومناصرتهم أو صمتهم على بشار في سوريا ، ورغم نقدنا الكامل لما يجري في مصر إلا أنه إذا قيس بما يفعله بشار في سوريا فهو مزاح خفيف وطبطبة على الكتف .
الأسد الأب والإبن تحالفوا مع الفرس "الإيرانيين" والأمريكان ضد العرب في العراق ليسقطوا صدام حسين وتسيطر إيران على بوابة العرب الشرقية ، وما زال هناك من يتحدث عن "قومية" آل الأسد وعروبتهم ، وبشار استجلب لحماية عرشه ميليشيات طائفية إيرانية "الحرس الثوري الإيراني" وأفغانية تذل الشعب السوري ، وتقوم "إسرائيل" بحماية حدوده ، وعندما تهرب إيران صواريخ لحزب الله عبر مطاراته تقوم بقصفه وتأديبه ، مرارا وتكرارا ، دون أن يطلق طلقة رصاص واحدة تجاهها ، ومع ذلك يصر بعض "الطيبين" على الحديث عن محور المقاومة والممانعة ، حيث تحول الأمر إلى نكتة أو كوميديا سوداء ، من فرط الدجل الكامن فيها .
الناصريون في حاجة ضرورية للانتماء إلى أشواق الشعوب للحرية والكرامة والعدالة والتعددية ، وليس الانتماء إلى طغاة دجالين ، تاجروا بقضية فلسطين من أجل الاستيلاء على السلطة وتوريثها لأبنائهم ، مثلما فعل آل الأسد في سوريا والقذافي وأبناؤه في ليبيا ، هذه لحظة تاريخية فاصلة وحاسمة ، الولاء للإنسان ، للمواطن ، هذا مفتتح أي كلام ومبتدأ أي خطوات لأي تيار سياسي عربي يخلص لوطنه وأمته .