جمال سلطان
ضجة الشواذ .. والنخبة إذ تقع في الفخ من جديد
حفل موسيقي صغير وغير مشهور ، ولا يعرفه سوى شريحة صغيرة من المجتمع المترف ، وفي إحدى جوانبه قام عدد صغير جدا من الشباب المجهولين برفع علم للشواذ جنسيا ، هي حركات مراهقة وشديدة التفاهة ، ويمكن أن تمضي بسهولة وصمت بعد أن يسخر منها بعض من بجوارهم في الحفل أو يضحكون من فرط رعونتهم واستهتارهم ورغبتهم في إثبات "الاختلاف" رغم الفشل المتكرر ، ولكن "البعض" أراد استثمارها وتوظيفها بذكاء ، فحولها إلى قضية إعلامية كبيرة تتناولها الفضائيات المعروفة ويكتب عنها كبار الكتاب ، من السلطة والمعارضة ، وتدور حولها نقاشات صحفية وإعلامية واسعة ويتدخل سياسيون كبار للتحذير من مخاطر هذا الانفلات على المجتمع المصري "المتدين" وينشر آخرون اتهامات للمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني بأنهم هم المتورطون في نشر هذه الرذائل في البلد وهم الذين يروجون لها ويدافعون عن الشواذ جنسيا ، ويكتب آخرون عن أن هذا الشذوذ الفاضح إنما يتولى كبره نشطاء 6 أبريل وكوادر ثورة يناير ليصموها بأنها "ثورة الشواذ" ، وتحول الموضوع التافه والهامشي إلى "مولد" وصاحبه غايب ، ومرة أخرى تلعب يد "المايسترو" التي تلاعبت بنا عامين في أعقاب ثورة يناير ثم سحبتنا بهدوء إلى المرفأ الذي كانت تعرفه وتحدده سلفا ، وتركت لنا لطم الخدود وشق الجيوب والأسى على ثورة ضاعت لم نحمها كالرجال الناضجين ولا حتى العقلاء .
القضية "الوهمية" التي انتشر ضجيجها هذه الأيام في مصر بدعوى انتشار "الشذوذ الجنسي" أو بدعوى أخرى "حقوق الشواذ جنسيا" أو الحريات الفردية ، تكشف من جديد أن النخبة المصرية فاقدة للأهلية السياسية تماما ، نخبة هشة ، ولا تملك رؤية متكاملة ، وملا مشروعا سياسيا وطنيا حقيقا قابل لإقناع الناس أو حشدهم ، نخبة لا تعرف ماذا تريد من الناس ، من المجتمع ، من الشعب ، من الوطن ، من المصريين ، هي تلهو وفق أدبيات كل شخص ونوازعه الشخصية دون نظر إلى أرض وشعب وثقافة وهموم ونسيج اجتماعي وديني ، وخصمها يعرف هذا "الخواء" جيدا ، فيلقي لها كل فترة "الطعم" الذي تلوكه وتغرق به وتبتعد مسافة جديدة عن الناس والشعب والجمهور ، لتتحول إلى "جيتو" ثقافي صغير منعزل ومشكوك في أمره عند الناس وقابل لأي تهمة يمكن أن تلصق به ، فهي نخبة تستجيب بسهولة لمعركة الدفاع عن شخص تافه ولا تاريخ علمي له بأي وزن يقدم نفسه أو يقدمه آخرون كمجدد كبير للإسلام يهين مقدسات الناس ويشككهم في قواعد دينهم وفي ميراث رسولهم ، ويخوضون معركة باسلة في الدفاع عنه وليس في تجاوز هذه "الغثاثة" الإعلامية المفتعلة ، ولا يفيقون من تلك المعركة الخاسرة حتى يدخلوا في معركة أخرى للدفاع عن روائي حرص على أن يشرح تجربته الجنسية في السرير بالتفصيل الممل وكيف "لحس ..." فاصطاده محامي آخر وأخذه للمحكمة وكانت الضجة الجديدة ، فلم يخرجوا منها حتى تم اصطيادهم في طعم معركة "الشواذ جنسيا" والضجيج الحالي ، ... هل هذه نخبة سياسية يمكن أن تقود شعبا مثل الشعب المصري أو تتحدث باسمه أو تلتحم به أو تحشده للنضال معها من أجل الحرية والكرامة والعدالة ، أو أي معركة أخرى .
الأكاديمي المعارض والكاتب المحترم الدكتور محمد نور فرحات عندما احتج على قانون نزع الجنسية الأخير ، وهو محق تماما في ما قاله ، وصف الحالة بأن سلطة السيسي تريد أن تختار شعبها على مقاسها بدلا من أن يختار الشعب سلطته ، والحقيقة يا دكتور نور أن هذه "السخرية" تصدق تماما على النخبة السياسية التي تعارض السيسي ، فهي تختار شعبا آخر على مقاسها غير الشعب المصري الذي نعرفه لكي تناضل باسمه ، وتفرض عليه قائمة هموم أخرى غير أولويات همومه ، وتضع على رأس تلك القائمة الدفاع عن الملحدين والمستهترين أخلاقيا المعادين لقيم المجتمع وأخلاقه الفطرية والشواذ جنسيا ، ثم يسألون ببراءة : لماذا يخذلنا الناس ، ولماذا يديرون لنا ظهورهم ، ولماذا تنجح السلطة في تدجين الناس وإلهائهم رغم سطحية خطابها وانحطاط إعلامها ، ولماذا تعجز النخبة حتى الآن عن مجرد طرح بديل لسلطة هشة وفاشلة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا .